لكن تنازعوا في مسألتين : إحداهما : أن العباد هل يعلمون بعقولهم حسن بعض الأفعال [1] ، ويعلمون أن الله متصف بفعله ، ويعلمون قبح بعض الأفعال ، ويعلمون أن الله منزه عنه ؟ [2] على قولين معروفين [3] : أحدهما : أن العقل لا يعلم به حسن فعل ولا قبحه ، أما في حق الله فلأن القبيح منه ممتنع لذاته ، وأما في حق العباد فلأن الحسن والقبح لا يثبت إلا بالشرع . وهذا قول الأشعري وأتباعه ، وكثير من الفقهاء من [ ص: 449 ] أصحاب مالك والشافعي وأحمد . وهؤلاء لا ينازعون في الحسن والقبيح [4] إذا فسر بمعنى الملائم والمنافي أنه قد يعلم بالعقل ، وكذلك لا ينازعون - أو لا ينازع أكثرهم أو كثير منهم - في أنه إذا عني به كون الشيء صفة كمال أو صفة نقص [5] أنه يعلم بالعقل .
والقول الثاني : أن العقل [ قد ] يعلم [ به ] حسن كثير [6] من الأفعال وقبحها في حق الله وحق عباده . وهذا مع أنه قول المعتزلة فهو قول الكرامية وغيرهم [ من الطوائف ] [7] ، وهو قول جمهور الحنفية ، وكثير من أصحاب مالك والشافعي [8] وأحمد ، كأبي بكر الأبهري [9] وغيره من أصحاب مالك ، وأبي الحسن التميمي ، وأبي الخطاب [ الكلوذاني ] [10] [ من أصحاب أحمد ] [11] ، وذكر أن هذا [ القول ] قول [12] أكثر أهل العلم ، [ ص: 450 ] وهو قول أبي علي بن أبي هريرة و [ أبي بكر ] القفال [13] وغيرهما من أصحاب الشافعي ، و [ هو قول ] طوائف [14] من أئمة أهل الحديث .
وعدوا القول الأول من أقوال أهل البدع ، كما ذكر ذلك أبو نصر السجزي في رسالته المعروفة في السنة ، وذكره صاحبه أبو القاسم سعد بن علي الزنجاني [15] في شرح قصيدته المعروفة في السنة .
وفي المسألة قول ثالث اختاره الرازي في آخر مصنفاته ، وهو القول بالتحسين والتقبيح العقليين [16] في أفعال [17] العباد دون أفعال الله تعالى .
وقد تنازع أئمة الطوائف في الأعيان قبل ورود السمع ، فقالت الحنفية وكثير من الشافعية والحنبلية : إنها على الإباحة ، مثل ابن سريج [18] ، وأبي إسحاق المروزي [19] ، وأبي الحسن التميمي ، وأبي الخطاب [ ص: 451 ] وقالت طوائف : إنها على الحظر ، كأبي علي بن أبي هريرة ، وابن حامد ، والقاضي أبي يعلى ، وعبد الرحمن الحلواني ، [20] وغيرهم .
مع أن أكثر الناس يقولون : إن القولين لا يصحان إلا على قولنا بأن العقل يحسن ويقبح ، وإلا فمن قال : إنه لا يعرف بالعقل حكم امتنع أن يصفها قبل الشرع بحظر أو إباحة [21] كما قال ذلك الأشعري ، وأبو الحسن الجزري ، [22] وأبو بكر الصيرفي [23] و [ أبو الوفاء ] بن عقيل ، [24] وغيرهم .


