وأما قوله : " [ ثم قال ] [1] : إن اجتمع علي وعثمان فالقول ما قالاه ، وإن صاروا ثلاثة ، فالقول قول الذين [2] [ صار ] [3] فيهم عبد الرحمن ، لعلمه أن عليا وعثمان لا يجتمعان على أمر ، وأن عبد الرحمن لا يعدل بالأمر عن أخيه عثمان وابن عمه " .
فيقال له : من الذي قال إن عمر قال ذلك ؟ وإن كان قد قال ذلك [4] [ ص: 164 ] فلا يجوز أن يظن به [5] أنه كان غرضه ولاية عثمان محاباة له ، ومنع علي معاداة له ، فإنه لو كان قصده هذا لولى عثمان ابتداء ، ولم ينتطح فيها عنزان . كيف والذين عاشوا بعده قدموا عثمان بدون تعيين عمر له ؟ فلو كان [ عمر ] [6] عينه ، لكانوا أعظم متابعة [7] له وطاعة ، سواء كانوا كما يقوله المؤمنون : أهل دين وخير وعدل ، أو كانوا كما يقوله المنافقون الطاعنون فيهم : إن مقصودهم الظلم والشر . لا سيما عمر كان في حال الحياة لا يخاف أحدا ، والرافضة تسميه : فرعون هذه الأمة . فإذا كان في حياته لم يخف من تقديم أبي بكر ، والأمر في أوله ، والنفوس لم تتوطن [8] على طاعة أحد معين بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا صار لعمر أمر ، فكيف يخاف من تقديم عثمان عند موته والناس كلهم مطيعوه ، وقد تمرنوا [9] على طاعته ؟
فعلم أنه لو كان له غرض في تقديم عثمان لقدمه ، ولم يحتج إلى هذه الدورة [10] البعيدة .
ثم أي غرض يكون لعمر - رضي الله عنه - في عثمان دون علي ؟ وليس بينه وبين عثمان من أسباب الصلة أكثر مما بينه وبين علي ، لا من جهة القبيلة ، ولا من غير جهة القبيلة .
[ ص: 165 ] وعمر قد أخرج من الأمر ابنه ، ولم يدخل في الأمر ابن عمه سعيد بن زيد ، وهو أحد العشرة المشهود لأعيانهم بالجنة في حديث واحد [11] . وهم [12] من قبيلة بني عدي . ولا كان يولي من بني عدي أحدا ، بل ولى رجلا منهم ثم عزله .
وكان باتفاق الناس لا تأخذه في الله لومة لائم ، فأي داع يدعوه إلى محاباة زيد دون عمرو بلا غرض يحصله [13] من الدنيا [14] ؟
فمن أقصى عشيرته ، وأمر بأن الدين الذي عليه لا يوفى إلا من مال أقاربه ، ثم من مال بني عدي ، ثم من مال قريش ، ولا يؤخذ من بيت المال شيء ، ولا من سائر الناس ، فأي حاجة له إلى عثمان أو علي أو غيرهما حتى يقدمه ؟ وهو لا يحتاج إليه لا في أهله الذين يخلفهم ولا في دينه الذي عليه ؟
والإنسان إنما يحابي من يتولى بعده لحاجته إليه في نحو ذلك . فمن لا يكون له حاجة لا إلى هذا ولا إلى هذا ، فأي داع يدعوه إلى ذلك ؟ لا سيما عند الموت ، وهو وقت يسلم فيه الكافر ، ويتوب فيه الفاجر . فلو علم أن لعلي حقا دون غيره ، أو أنه أحق بالأمر من غيره ، لكان الواجب أن يقدمه حينئذ : إما توبة إلى الله ، [ وإما تخفيفا للذنب ] [15] ، ( 6 فإنه إذا لم يكن له مانع دنيوي لم يبق إلا الدين ، فلو كان الدين يقتضي ذلك 6 ) [16] [ ص: 166 ] لفعله ، وإلا فليس في العادة أن الرجل يفعل ما يعلم أنه يعاقب عليه ، ولا ينتفع به لا في دين ولا دنيا [17] ، بل لا يفعل ما لا غرض له فيه أصلا ، ويترك ما يحتاج إليه في دينه عند الموت ، مع صحة العقل [ وحضوره ] [18] وطول الوقت .
ولو قدر - والعياذ بالله - أنه كان عدوا مبغضا للنبي - صلى الله عليه وسلم - غاية البغضة ، فلا ريب أنه نال بسبب النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ناله من السعادة ، ولم يكن عمر ممن يخفى عليه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صادق مصدق [19] ، فإنه كان من أذكى الناس ، ودلائل النبوة من أظهر الأمور ، فهو يعلم [20] أنه إن استمر على معاداته يعذب في الآخرة ، وليس له وقت الموت غرض في ولاية عثمان ونحوه ، فكيف يصرف الأمر عن مستحقه لغير غرض ؟
وإن قيل : إنه كان يخاف أن يقال : إنه رجع وتاب ، كما خاف أبو طالب من الإسلام وقت الموت .
فيقال : قد كان يمكنه ولاية علي بلا إظهار توبة ، فإنه لو ولى عليا أو غيره لسمع الناس وأطاعوا ، ولم ينتطح في ذلك عنزان . والإنسان قد يكون عليه مظالم فيؤديها على وجه لا يعرف أنه كان ظالما ، فيوصي وقت [ ص: 167 ] الموت لفلان بكذا ولفلان بكذا ، ويجعلها وصية ، ويكون إما معتقدا وإما خائفا أن يكون حقا واجبا عليه .
وليس لعمر من يخاف عليه بعد موته ، فإن أقاربه صرف الأمر عنهم ، وهو يعلم أن عليا أعدل وأتقى من أن يظلمهم . ولو قدر أن عليا كان ينتقم من الذين [ لم ] [21] يبايعوه أولا ، فبنو عدي كانوا أبعد الناس عن ذلك ، فإنه [22] لم يكن لهم شوكة ولا كانوا كثيرين ، وهم كلهم محبون لعلي معظمون له ، ليس فيهم من يبغض عليا أو يبغضه علي ، ولا قتل علي منهم أحدا لا في جاهلية ولا إسلام . وكذلك بنو تيم [23] كلهم يحبون عليا [ وعلي يحبهم ] [24] ، ولم يقتل علي منهم أحدا في جاهلية ولا إسلام .
ويقال ثانيا : عمر ما زال إذا روجع رجع ، وما زال يعترف غير مرة أنه يتبين له الحق فيرجع إليه ، فإن [25] هذا توبة . ويقول : رجل أخطأ وامرأة أصابت ، ويجدد التوبة لما يعلم أنه يتاب منه . فهذا كان يفعله في حال الحياة ، وهو ذو سلطان على الأرض ، فكيف لا يفعله وقت الموت ؟
وقد كان يمكنه أن يحتال لعلي بحيلة يتولى بها ، ولا يظهر ما به يذم [26] ، كما أنه احتال لعثمان . ولو علم أن الحق كان لعلي دون غيره ، لكان له طرق كثيرة في تعيينه تخفى على أكثر الناس .
[ ص: 168 ] وكذلك قول القائل : إنه علم [27] أن عليا وعثمان لا يجتمعان على أمر ، كذب [ على عمر - رضي الله عنه - ] [28] . ولم يكن بين عثمان وعلي نزاع في حياة عمر أصلا ، بل كان أحدهما أقرب إلى صاحبه من سائر الأربعة إليهما [29] ، [ كلاهما ] [30] من بني عبد مناف . وما زال بنو عبد مناف يدا واحدة ، حتى أن أبا سفيان بن حرب أتى عليا عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وطلب منه أن يتولى الأمر ، لكون علي كان ابن عم أبي سفيان ، وأبو سفيان كان [31] فيه بقايا من جاهلية العرب ، يكره أن يتولى على الناس رجل من غير قبيلته ، وأحب أن تكون الولاية في بني عبد مناف .
وكذلك خالد بن سعيد كان غائبا ، فلما قدم تكلم مع عثمان وعلي وقال : أرضيتم أن يخرج الأمر عن بني عبد مناف ؟
وكل من يعرف الأمور العادية ، ويعرف ما تقدم من سيرة القوم ، يعلم أن بني هاشم وبني أمية كانوا في غاية الاتفاق في أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر ، حتى أن أبا سفيان لما خرج من مكة عام الفتح يكشف الخبر ، ورآه العباس ، أخذه وأركبه خلفه ، وأتى به النبي صلى الله عليه وسلم ، وطلب من النبي أن يشرفه بشيء لما قال له : إن [ ص: 169 ] أبا سفيان [ رجل ] [32] يحب الشرف [33] . وكل هذا من محبة العباس لأبي سفيان وبني أمية ؛ لأنهم كلهم بنو عبد مناف .
وحتى أنه كان بين علي وبين رجل آخر [34] من المسلمين منازعة في حد ، فخرج عثمان في موكب فيهم معاوية ليقفوا على الحد ، فابتدر معاوية وسأل عن معلم من معالم الحد : هل كان هذا على عهد عمر ؟ فقالوا : نعم [35] . فقال : لو كان هذا ظلما لغيره عمر . فانتصر معاوية لعلي في تلك الحكومة ، ولم يكن علي حاضرا ، بل كان قد وكل ابن جعفر . وكان [ علي ] [36] يقول : " إن للخصومات قحما [37] ، وإن الشيطان يحضرها " وكان قد وكل عبد الله بن جعفر عنه في المحاكمة .
وبهذا احتج الشافعي وغير واحد من الفقهاء على جواز التوكيل في الخصومة بدون اختيار الخصم ، كما هو مذهب الشافعي ، و [ أصحاب ] أحمد [38] وأحد القولين في مذهب أبي حنيفة .
فلما رجعوا ذكروا ذلك لعلي ، فقال : أتدري لم فعل ذلك معاوية ؟ [ ص: 170 ] فعل لأجل المنافية . أي لأجل أنا جميعا من بني عبد مناف .
وكانت قد وقعت حكومة شاورني فيها بعض قضاة القضاة ، وأحضر لي كتابا فيه هذه الحكومة ، ولم يعرفوا هذه اللفظة : لفظة " المنافية " فبينتها لهم وفسرت لهم معناها .
والمقصود أن بني عبد مناف كانوا متفقين في أول الأمر على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر ، وإنما وقعت الفرقة بينهم بعد ذلك ، لما تفرقوا في الإمارة . كما أن بني هاشم كانوا متفقين على عهد الخلفاء الأربعة وعهد بني أمية ، وإنما حصلت الفرقة لما ولي بنو العباس ، وصار بينهم وبين بعض بني أبي طالب [39] فرقة واختلاف . وهكذا عادة الناس ، يكون القوم متفقين إذا لم يكن بينهم ما يتنازعون عليه من جاه أو مال أو غير ذلك ، وإن كان لهم خصم كانوا جميعا إلبا [40] واحدا عليه ، فإذا صار الأمر إليهم تنازعوا واختلفوا .
فكان بنو هاشم من آل علي والعباس وغيرهم في الخلافة الأموية متفقين لا نزاع بينهم ، ولما خرج من يدعو إليهم صار يدعو إلى الرضا من آل محمد ولا يعينه ، وكانت العلوية تطمع أن تكون [41] فيهم ، وكان جعفر بن محمد وغيره قد علموا أن هذا الأمر لا يكون إلا في بني العباس ، فلما أزالوا [42] الدولة الأموية ، وصارت الدولة هاشمية ، وبنى السفاح مدينة [ ص: 171 ] سماها الهاشمية ، ثم [43] تولى المنصور ، وقع [44] نزاع بين الهاشميين ، فخرج محمد وإبراهيم ابنا عبد الله بن حسن على المنصور ، وسير المنصور إليهما من يقاتلهما ، وكانت فتنة عظيمة قتل فيها خلق كثير . ثم إن العباسيين وقع بينهم نزاع ، كما وقع بين الأمين والمأمون أمور أخر . فهذه الأمور [ ونحوها من الأمور ] [45] التي جرت بها العادة [46] .
[ ثم إن عثمان وعليا جميعا [47] اتفقا على تفويض الأمر [48] إلى عبد الرحمن بن عوف ، من غير أن يكره أحدهما الآخر ] [49] .


