nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58nindex.php?page=treesubj&link=28975_32455_32267إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا .
استئناف ابتدائي قصد منه الإفاضة في بيان شرائع العدل والحكم ، ونظام الطاعة ، وذلك من الأغراض التشريعية الكبرى التي تضمنتها هذه السورة ، ولا يتعين تطلب المناسبة بينه وبين ما سبقه ، فالمناسبة هي الانتقال من أحكام تشريعية إلى أحكام أخرى في أغراض أخرى . وهنا مناسبة ، وهي أن ما استطرد من ذكر أحوال أهل الكتاب في تحريفهم الكلم عن مواضعه ، وليهم ألسنتهم بكلمات فيها توجيه من السب ، وافترائهم على الله الكذب ، وحسدهم بإنكار فضل الله إذ آتاه الرسول والمؤمنين ، كل ذلك يشتمل على خيانة أمانة الدين ، والعلم ، والحق ، والنعمة ، وهي أمانات معنوية ، فناسب أن يعقب ذلك بالأمر بأداء الأمانة الحسية إلى أهلها ويتخلص إلى هذا التشريع .
وجملة
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58إن الله يأمركم صريحة في الأمر والوجوب ، مثل صراحة النهي في قوله في الحديث
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341540إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم . وإن فيها لمجرد الاهتمام بالخبر لظهور أن مثل هذا الخبر لا يقبل الشك حتى يؤكد لأنه إخبار عن إيجاد شيء لا عن وجوده ، فهو والإنشاء سواء .
والخطاب لكل من يصلح لتلقي هذا الخطاب والعمل به من كل مؤتمن على شيء ، ومن كل من تولى الحكم بين الناس في الحقوق .
والأداء حقيقته في تسليم ذات لمن يستحقها ، يقال : أدى إليه كذا ، أي دفعه وسلمه ، ومنه أداء الدين . وتقدم في قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=75من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك في سورة آل
[ ص: 92 ] عمران . وأصل أدى أن يكون مضاعف أدى بالتخفيف بمعنى أوصل ، لكنهم أهملوا أدى المخفف واستغنوا عنه بالمضاعف .
ويطلق الأداء مجازا على الاعتراف والوفاء بشيء ، وعلى هذا فيطلق أداء الأمانة على قول الحق والاعتراف به وتبليغ العلم والشريعة على حقها . والمراد هنا هو الأول من المعنيين ، ويعرف حكم غيره منهما أو من أحدهما بالقياس عليه قياس الأدون .
nindex.php?page=treesubj&link=19840والأمانة : الشيء الذي يجعله صاحبه عند شخص ليحفظه إلى أن يطلبه منه ، وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=283فليؤد الذي اؤتمن أمانته في سورة البقرة .
وتطلق الأمانة مجازا على ما يجب على المكلف إبلاغه إلى أربابه ومستحقيه من الخاصة والعامة كالدين والعلم والعهود والجوار والنصيحة ونحوها ، وضدها الخيانة في الإطلاقين . والأمر للوجوب .
والأمانات من صيغ العموم . فلذلك قال جمهور العلماء فيمن
nindex.php?page=treesubj&link=19848ائتمنه رجل على شيء وكان للأمين حق عند المؤتمن جحده إياه : إنه لا يجوز له أخذ الأمانة عوض حقه لأن ذلك خيانة ، ومنعه
مالك في المدونة ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16991ابن عبد الحكم : أنه يجوز له أن يجحده بمقدار ما عليه له ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، nindex.php?page=showalam&ids=15944وزيد بن أسلم ، nindex.php?page=showalam&ids=16128وشهر بن حوشب ، ومكحول : أن المخاطب ولاة الأمور ، أمرهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها . وقيل : نزلت في أمر
nindex.php?page=showalam&ids=5546عثمان بن طلحة بن أبي طلحة .
وأهل الأمانة هم مستحقوها ، يقال : أهل الدار ، أي أصحابها . وذكر
الواحدي في أسباب النزول ، بسند ضعيف : أن الآية نزلت يوم فتح
مكة إذ سلم
nindex.php?page=showalam&ids=5546عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري الحجبي مفتاح
الكعبة للنبيء - صلى الله عليه وسلم - وكانت سدانة
الكعبة بيده ، وهو من
بني عبد الدار وكانت السدانة فيهم ، فسأل
nindex.php?page=showalam&ids=18العباس بن عبد المطلب من رسول الله أن يجعل له سدانة
الكعبة يضمها مع السقاية ، وكانت السقاية بيده ، وهي في
بني هاشم .
فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
nindex.php?page=showalam&ids=5546عثمان بن طلحة وابن عمه
nindex.php?page=showalam&ids=4137شيبة بن عثمان بن أبي طلحة ، فدفع لهما مفتاح
الكعبة وتلا هذه الآية ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب : وما كنت سمعتها منه قبل ذلك ، وقال النبيء - صلى الله عليه وسلم -
nindex.php?page=showalam&ids=5546لعثمان بن طلحة nindex.php?page=hadith&LINKID=10341541خذوها خالدة تالدة لا ينتزعها منكم إلا ظالم ، ولم يكن أخذ النبيء
[ ص: 93 ] - صلى الله عليه وسلم - مفتاح
الكعبة من
nindex.php?page=showalam&ids=5546عثمان بن طلحة أخذ انتزاع ، ولكنه أخذه ينتظر الوحي في شأنه ، لأن كون المفتاح بيد
nindex.php?page=showalam&ids=5546عثمان بن طلحة مستصحب من قبل الإسلام ، ولم يغير الإسلام حوزه إياه ، فلما نزلت الآية تقرر حق
بني عبد الدار فيه بحكم الإسلام ، فبقيت سدانة الكعبة في
بني عبد الدار ، ونزل
nindex.php?page=showalam&ids=5546عثمان بن طلحة عنها لابن عمه
nindex.php?page=showalam&ids=4137شيبة بن عثمان ، وكانت السدانة من مناصب
قريش في الجاهلية فأبطل النبيء - صلى الله عليه وسلم - بعضها في خطبة يوم الفتح أو حجة الوداع ، ما عدا السقاية والسدانة .
فإطلاق اسم الأمانة في الآية حقيقة ، لأن
عثمان سلم مفتاح الكعبة للنبيء - صلى الله عليه وسلم - دون أن يسقط حقه .
والأداء حينئذ مستعمل في معناه الحقيقي ، لأن الحق هنا ذات يمكن إيصالها بالفعل لمستحقيها ، فتكون الآية آمرة بجميع أنواع الإيصال والوفاءات ، ومن جملة ذلك دفع الأمانات الحقيقية ، فلا مجاز في لفظ تؤدوا .
وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58nindex.php?page=treesubj&link=28975_19831_19836وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل عطف
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58أن تحكموا على
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58أن تؤدوا وفصل بين العاطف والمعطوف الظرف ، وهو جائز ، مثل قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=201وفي الآخرة حسنة وكذلك في عطف الأفعال على الصحيح : مثل
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=129وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين .
والحكم مصدر حكم بين المتنازعين ، أي اعتنى بإظهار المحق منهما من المبطل ، أو إظهار الحق لأحدهما وصرح بذلك ، وهو مشتق من الحكم بفتح الحاء وهو
[ ص: 94 ] الردع عن فعل ما لا ينبغي ، ومنه سميت حكمة اللجام ، وهي الحديدة التي تجعل في فم الفرس ، ويقال : أحكم فلانا ، أي أمسكه .
nindex.php?page=treesubj&link=19828والعدل : ضد الجور ، فهو في اللغة التسوية ، يقال : عدل كذا بكذا ، أي سواه به ووازنه عدلا
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ، ثم شاع إطلاقه على إيصال الحق إلى أهله ، ودفع المعتدي على الحق عن مستحقه ، إطلاقا ناشئا عما اعتاده الناس أن الجور يصدر من الطغاة الذين لا يعدون أنفسهم سواء مع عموم الناس ، فهم إن شاءوا عدلوا وأنصفوا ، وإن شاءوا جاروا وظلموا ، قال
لبيد :
ومقسم يعطي العشيرة حقها ومغذمر لحقوقها هضامها
فأطلق لفظ العدل الذي هو التسوية على تسوية نافعة يحصل بها الصلاح والأمن ، وذلك فك الشيء من يد المعتدي ، لأنه تظهر فيه التسوية بين المتنازعين ، فهو كناية غالبة ، ومظهر ذلك هو الحكم لصاحب الحق بأخذ حقه ممن اعتدى عليه ، ولذلك قال تعالى هنا
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ، ثم توسعوا في هذا الإطلاق حتى صار يطلق على إبلاغ الحق إلى ربه ولو لم يحصل اعتداء ولا نزاع .
والعدل : مساواة بين الناس أو بين أفراد أمة : في تعيين الأشياء لمستحقها ، وفي تمكين كل ذي حق من حقه ، بدون تأخير ، فهو مساواة في استحقاق الأشياء وفي وسائل تمكينها بأيدي أربابها ، فالأول هو العدل في تعيين الحقوق ، والثاني هو العدل في التنفيذ ، وليس العدل في توزيع الأشياء بين الناس سواء بدون استحقاق .
فالعدل وسط بين طرفين ، هما : الإفراط في تخويل ذي الحق حقه ، أي بإعطائه أكثر من حقه ، والتفريط في ذلك ، أي بالإجحاف له من حقه ، وكلا الطرفين يسمى جورا ، وكذلك الإفراط والتفريط في تنفيذ الإعطاء بتقديمه على وقته ، كإعطاء المال بيد السفيه ، أو تأخيره كإبقاء المال بيد الوصي بعد الرشد ، ولذلك قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=5ولا تؤتوا السفهاء أموالكم إلى قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=6فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ؛ فالعدل يدخل في جميع المعاملات . وهو حسن في الفطرة لأنه كما يصد المعتدي عن اعتدائه ،
[ ص: 95 ] كذلك يصد غيره عن الاعتداء عليه ، كما قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=279لا تظلمون ولا تظلمون .
وإذ قد كان العدل بهذه الاعتبارات تجول في تحديده أفهام مخطئة تعين أن تسن الشرائع لضبطه على حسب مدارك المشرعين ومصطلحات المشرع لهم ، على أنها معظمها لم يسلم من تحريف لحقيقة العدل في بعض الأحوال .
فإن بعض القوانين أسست بدافعة الغضب والأنانية ، فتضمنت أخطاء فاحشة مثل القوانين التي يمليها الثوار بدافع الغضب على من كانوا متولين الأمور قبلهم ، وبعض القوانين المتفرعة عن تخيلات وأوهام ، كقوانين أهل الجاهلية والأمم العريقة في الوثنية .
ونجد القوانين التي سنها الحكماء أمكن في تحقيق منافع العدل مثل قوانين
أثينة وإسبرطة ، وأعلى القوانين هي الشرائع الإلهية لمناسبتها لحال من شرعت لأجلهم ، وأعظمها شريعة الإسلام لابتنائها على أساس المصالح الخالصة أو الراجحة ، وإعراضها عن أهواء الأمم والعوائد الضالة ، فإنها لا تعبأ بالأنانية والهوى ، ولا بعوائد الفساد ، ولأنها لا تبنى على مصالح قبيلة خاصة ، أو بلد خاص ، بل تبتنى على مصالح النوع البشري وتقويمه وهديه إلى سواء السبيل ، ومن أجل هذا لم يزل الصالحون من القادة يدونون بيان الحقوق حفظا للعدل بقدر الإمكان وخاصة الشرائع الإلهية .
قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط أي العدل . فمنها المنصوص عليه على لسان رسول البشرية ومنها ما استنبطه علماء تلك الشريعة فهو مدرج فيها وملحق بها .
وإنما قيد الأمر بالعدل بحالة التصدي للحكم بين الناس ، وأطلق الأمر برد الأمانات إلى أهلها عن التقييد : لأن كل أحد لا يخلو من أن تقع بيده أمانة لغيره لا سيما على اعتبار تعميم المراد بالأمانات الشامل لما يجب على المرء إبلاغه لمستحقه كما تقدم ، بخلاف العدل فإنما يؤمر به ولاة الحكم بين الناس ، وليس كل أحد أهلا لتولي ذلك فتلك نكتة قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58وإذا حكمتم بين الناس .
قال الفخر : قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58وإذا حكمتم هو كالتصريح بأنه ليس لجميع الناس أن يشرعوا في الحكم بل ذلك لبعضهم ، فالآية مجملة في أنه بأي طريق يصير حاكما ولما دلت الدلائل على أنه لا بد للأمة من إمام وأنه ينصب القضاة والولاة وصارت تلك الدلائل لهذه الآية .
[ ص: 96 ] وجملة
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58إن الله نعما يعظكم به واقعة موقع التحريض على امتثال الأمر ، فكانت بمنزلة التعليل ، وأغنت إن في صدر الجملة عن ذكر فاء التعقيب ، كما هو الشأن إذا جاءت ( إن ) للاهتمام دون التأكيد .
ونعما أصله ( نعم ما ) ركبت ( نعم ) مع ( ما ) بعد طرح حركة الميم الأولى وتنزيلها منزلة الكلمة الواحدة ، وأدغم الميمان وحركت العين الساكنة بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين .
و ( ما ) جوز النحاة أن تكون اسما موصولا ، أو نكرة موصوفة ، أو نكرة تامة . والجملة التي بعد ( ما ) تجري على ما يناسب معنى ( ما ) ، وقيل : ( ما ) زائدة كافة ( نعم ) عن العمل .
والوعظ : التذكير والنصح ، وقد يكون فيه زجر وتخويف .
وجملة
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58إن الله كان سميعا بصيرا أي عليما بما تفعلون وما تقولون ، وهذه بشارة ونذارة .
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58nindex.php?page=treesubj&link=28975_32455_32267إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا .
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ قُصِدَ مِنْهُ الْإِفَاضَةُ فِي بَيَانِ شَرَائِعِ الْعَدْلِ وَالْحُكْمِ ، وَنِظَامِ الطَّاعَةِ ، وَذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ التَّشْرِيعِيَّةِ الْكُبْرَى الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ السُّورَةُ ، وَلَا يَتَعَيَّنُ تَطَلُّبُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا سَبَقَهُ ، فَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ الِانْتِقَالُ مِنْ أَحْكَامٍ تَشْرِيعِيَّةٍ إِلَى أَحْكَامٍ أُخْرَى فِي أَغْرَاضٍ أُخْرَى . وَهُنَا مُنَاسَبَةٌ ، وَهِيَ أَنَّ مَا اسْتَطْرَدَ مِنْ ذِكْرِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَحْرِيفِهِمُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ، وَلَيِّهِمْ أَلْسِنَتَهُمْ بِكَلِمَاتٍ فِيهَا تَوْجِيهٌ مِنَ السَّبِّ ، وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ، وَحَسَدِهِمْ بِإِنْكَارِ فَضْلِ اللَّهِ إِذْ آتَاهُ الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ ، كُلُّ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى خِيَانَةِ أَمَانَةِ الدِّينِ ، وَالْعِلْمِ ، وَالْحَقِّ ، وَالنِّعْمَةِ ، وَهِيَ أَمَانَاتٌ مَعْنَوِيَّةٌ ، فَنَاسَبَ أَنْ يُعَقِّبَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ الْحِسِّيَّةِ إِلَى أَهْلِهَا وَيَتَخَلَّصَ إِلَى هَذَا التَّشْرِيعِ .
وَجُمْلَةُ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ صَرِيحَةٌ فِي الْأَمْرِ وَالْوُجُوبِ ، مِثْلَ صَرَاحَةِ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341540إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ . وَإِنَّ فِيهَا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِظُهُورِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْخَبَرِ لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ حَتَّى يُؤَكَّدَ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ إِيجَادِ شَيْءٍ لَا عَنْ وُجُودِهِ ، فَهُوَ وَالْإِنْشَاءُ سَوَاءٌ .
وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِتَلَقِّي هَذَا الْخِطَابَ وَالْعَمَلِ بِهِ مِنْ كُلِّ مُؤْتَمَنٍ عَلَى شَيْءٍ ، وَمِنْ كُلِّ مَنْ تَوَلَّى الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْحُقُوقِ .
وَالْأَدَاءُ حَقِيقَتُهُ فِي تَسْلِيمِ ذَاتٍ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا ، يُقَالُ : أَدَّى إِلَيْهِ كَذَا ، أَيْ دَفَعَهُ وَسَلَّمَهُ ، وَمِنْهُ أَدَاءُ الدَّيْنِ . وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=75مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ فِي سُورَةِ آلِ
[ ص: 92 ] عِمْرَانَ . وَأَصْلُ أَدَّى أَنْ يَكُونَ مُضَاعَفَ أَدَى بِالتَّخْفِيفِ بِمَعْنَى أَوْصَلَ ، لَكِنَّهُمْ أَهْمَلُوا أَدَى الْمُخَفَّفَ وَاسْتَغْنَوْا عَنْهُ بِالْمُضَاعَفِ .
وَيُطْلَقُ الْأَدَاءُ مَجَازًا عَلَى الِاعْتِرَافِ وَالْوَفَاءِ بِشَيْءٍ ، وَعَلَى هَذَا فَيُطْلَقُ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ عَلَى قَوْلِ الْحَقِّ وَالِاعْتِرَافِ بِهِ وَتَبْلِيغِ الْعِلْمِ وَالشَّرِيعَةِ عَلَى حَقِّهَا . وَالْمُرَادُ هُنَا هُوَ الْأَوَّلُ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ ، وَيُعْرَفُ حُكْمُ غَيْرِهِ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ قِيَاسَ الْأَدْوَنِ .
nindex.php?page=treesubj&link=19840وَالْأَمَانَةُ : الشَّيْءُ الَّذِي يَجْعَلُهُ صَاحِبُهُ عِنْدَ شَخْصٍ لِيَحْفَظَهُ إِلَى أَنْ يَطْلُبَهُ مِنْهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=283فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
وَتُطْلَقُ الْأَمَانَةُ مَجَازًا عَلَى مَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ إِبْلَاغُهُ إِلَى أَرْبَابِهِ وَمُسْتَحِقِّيهِ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ كَالدِّينِ وَالْعِلْمِ وَالْعُهُودِ وَالْجِوَارِ وَالنَّصِيحَةِ وَنَحْوِهَا ، وَضِدُّهَا الْخِيَانَةُ فِي الْإِطْلَاقَيْنِ . وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ .
وَالْأَمَانَاتُ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ . فَلِذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فِيمَنِ
nindex.php?page=treesubj&link=19848ائْتَمَنَهُ رَجُلٌ عَلَى شَيْءٍ وَكَانَ لِلْأَمِينِ حَقٌّ عِنْدَ الْمُؤْتَمَنِ جَحَدَهُ إِيَّاهُ : إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأَمَانَةِ عِوَضَ حَقِّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ خِيَانَةٌ ، وَمَنَعَهُ
مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ ، وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=16991ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ : أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْحَدَهُ بِمِقْدَارِ مَا عَلَيْهِ لَهُ ، وَهُوَ قَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطَّبَرَيُّ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ ، nindex.php?page=showalam&ids=15944وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، nindex.php?page=showalam&ids=16128وَشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ ، وَمَكْحُولٍ : أَنَّ الْمُخَاطَبَ وُلَاةُ الْأُمُورِ ، أَمَرَهُمْ أَنْ يُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا . وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي أَمْرِ
nindex.php?page=showalam&ids=5546عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ .
وَأَهْلُ الْأَمَانَةِ هُمْ مُسْتَحِقُّوهَا ، يُقَالُ : أَهْلُ الدَّارِ ، أَيْ أَصْحَابُهَا . وَذَكَرَ
الْوَاحِدِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ ، بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ : أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ يَوْمَ فَتْحِ
مَكَّةَ إِذْ سَلَّمَ
nindex.php?page=showalam&ids=5546عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيُّ الْحَجَبِيُّ مِفْتَاحَ
الْكَعْبَةِ لِلنَّبِيءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَتْ سِدَانَةُ
الْكَعْبَةِ بِيَدِهِ ، وَهُوَ مِنْ
بَنِي عَبْدِ الدَّارِ وَكَانَتِ السِّدَانَةُ فِيهِمْ ، فَسَأَلَ
nindex.php?page=showalam&ids=18الْعَبَّاسُ بْنُ عَبَدِ الْمُطَّلِبِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ سِدَانَةَ
الْكَعْبَةِ يَضُمُّهَا مَعَ السِّقَايَةِ ، وَكَانَتِ السِّقَايَةُ بِيَدِهِ ، وَهِيَ فِي
بَنِي هَاشِمٍ .
فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
nindex.php?page=showalam&ids=5546عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ وَابْنَ عَمِّهِ
nindex.php?page=showalam&ids=4137شَيْبَةَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، فَدَفَعَ لَهُمَا مِفْتَاحَ
الْكَعْبَةِ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : وَمَا كُنْتُ سَمِعْتُهَا مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَقَالَ النَّبِيءُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
nindex.php?page=showalam&ids=5546لِعُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ nindex.php?page=hadith&LINKID=10341541خُذُوهَا خَالِدَةً تَالِدَةً لَا يَنْتَزِعُهَا مِنْكُمْ إِلَّا ظَالِمٌ ، وَلَمْ يَكُنْ أَخْذُ النَّبِيءِ
[ ص: 93 ] - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِفْتَاحَ
الْكَعْبَةِ مِنْ
nindex.php?page=showalam&ids=5546عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ أَخْذَ انْتِزَاعٍ ، وَلَكِنَّهُ أَخَذَهُ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ فِي شَأْنِهِ ، لِأَنَّ كَوْنَ الْمِفْتَاحِ بِيَدِ
nindex.php?page=showalam&ids=5546عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ مُسْتَصْحَبٌ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ ، وَلَمْ يُغَيِّرِ الْإِسْلَامُ حَوْزَهُ إِيَّاهُ ، فَلَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ تَقَرَّرَ حَقُّ
بَنِي عَبْدِ الدَّارِ فِيهِ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ ، فَبَقِيَتْ سِدَانَةُ الْكَعْبَةِ فِي
بَنِي عَبْدِ الدَّارِ ، وَنَزَلَ
nindex.php?page=showalam&ids=5546عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ عَنْهَا لِابْنِ عَمِّهِ
nindex.php?page=showalam&ids=4137شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ ، وَكَانَتِ السِّدَانَةُ مِنْ مَنَاصِبِ
قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَبْطَلَ النَّبِيءُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْضَهَا فِي خُطْبَةِ يَوْمِ الْفَتْحِ أَوْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، مَا عَدَا السِّقَايَةَ وَالسِّدَانَةَ .
فَإِطْلَاقُ اسْمِ الْأَمَانَةِ فِي الْآيَةِ حَقِيقَةٌ ، لِأَنَّ
عُثْمَانَ سَلَّمَ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ لِلنَّبِيءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهُ .
وَالْأَدَاءُ حِينَئِذٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ ، لِأَنَّ الْحَقَّ هُنَا ذَاتٌ يُمْكِنُ إِيصَالُهَا بِالْفِعْلِ لِمُسْتَحِقِّيهَا ، فَتَكُونُ الْآيَةُ آمِرَةً بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْإِيصَالِ وَالْوَفَاءَاتِ ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ دَفْعُ الْأَمَانَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ ، فَلَا مَجَازَ فِي لَفْظِ تُؤَدُّوا .
وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58nindex.php?page=treesubj&link=28975_19831_19836وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ عَطَفَ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58أَنْ تَحْكُمُوا عَلَى
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58أَنْ تُؤَدُّوا وَفَصَلَ بَيْنَ الْعَاطِفِ وَالْمَعْطُوفِ الظَّرْفُ ، وَهُوَ جَائِزٌ ، مِثْلُ قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=201وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَكَذَلِكَ فِي عَطْفِ الْأَفْعَالِ عَلَى الصَّحِيحِ : مِثْلُ
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=129وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ .
وَالْحُكْمُ مَصْدَرُ حَكَمَ بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ ، أَيِ اعْتَنَى بِإِظْهَارِ الْمُحِقِّ مِنْهُمَا مِنَ الْمُبْطِلِ ، أَوْ إِظْهَارِ الْحَقِّ لِأَحَدِهِمَا وَصَرَّحَ بِذَلِكَ ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَكْمِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَهُوَ
[ ص: 94 ] الرَّدْعُ عَنْ فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ حَكَمَةُ اللِّجَامِ ، وَهِيَ الْحَدِيدَةُ الَّتِي تُجْعَلُ فِي فَمِ الْفَرَسِ ، وَيُقَالُ : أَحْكِمْ فُلَانًا ، أَيْ أَمْسِكْهُ .
nindex.php?page=treesubj&link=19828وَالْعَدْلُ : ضِدُّ الْجَوْرِ ، فَهُوَ فِي اللُّغَةِ التَّسْوِيَةُ ، يُقَالُ : عَدَلَ كَذَا بِكَذَا ، أَيْ سَوَّاهُ بِهِ وَوَازَنَهُ عَدْلًا
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ، ثُمَّ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى إِيصَالِ الْحَقِّ إِلَى أَهْلِهِ ، وَدَفْعِ الْمُعْتَدِي عَلَى الْحَقِّ عَنْ مُسْتَحِقِّهِ ، إِطْلَاقًا نَاشِئًا عَمَّا اعْتَادَهُ النَّاسُ أَنَّ الْجَوْرَ يَصْدُرُ مِنَ الطُّغَاةِ الَّذِينَ لَا يَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ سَوَاءً مَعَ عُمُومِ النَّاسِ ، فَهُمْ إِنْ شَاءُوا عَدَلُوا وَأَنْصَفُوا ، وَإِنْ شَاءُوا جَارُوا وَظَلَمُوا ، قَالَ
لَبِيدٌ :
وَمُقَسِّمٌ يُعْطِي الْعَشِيرَةَ حَقَّهَا وَمُغَذْمِرٌ لِحُقُوقِهَا هَضَّامُهَا
فَأَطْلَقَ لَفْظَ الْعَدْلِ الَّذِي هُوَ التَّسْوِيَةُ عَلَى تَسْوِيَةٍ نَافِعَةٍ يَحْصُلُ بِهَا الصَّلَاحُ وَالْأَمْنُ ، وَذَلِكَ فَكُّ الشَّيْءِ مِنْ يَدِ الْمُعْتَدِي ، لِأَنَّهُ تَظْهَرُ فِيهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ ، فَهُوَ كِنَايَةٌ غَالِبَةٌ ، وَمَظْهَرُ ذَلِكَ هُوَ الْحُكْمُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ بِأَخْذِ حَقِّهِ مِمَّنِ اعْتَدَى عَلَيْهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى هُنَا
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ، ثُمَّ تَوَسَّعُوا فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ حَتَّى صَارَ يُطْلَقُ عَلَى إِبْلَاغِ الْحَقِّ إِلَى رَبِّهِ وَلَوْ لَمْ يَحْصُلِ اعْتِدَاءٌ وَلَا نِزَاعٌ .
وَالْعَدْلُ : مُسَاوَاةٌ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ بَيْنَ أَفْرَادِ أُمَّةٍ : فِي تَعْيِينِ الْأَشْيَاءِ لِمُسْتَحِقِّهَا ، وَفِي تَمْكِينِ كُلِّ ذِي حَقٍّ مِنْ حَقِّهِ ، بِدُونِ تَأْخِيرٍ ، فَهُوَ مُسَاوَاةٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَشْيَاءِ وَفِي وَسَائِلِ تَمْكِينِهَا بِأَيْدِي أَرْبَابِهَا ، فَالْأَوَّلُ هُوَ الْعَدْلُ فِي تَعْيِينِ الْحُقُوقِ ، وَالثَّانِي هُوَ الْعَدْلُ فِي التَّنْفِيذِ ، وَلَيْسَ الْعَدْلُ فِي تَوْزِيعِ الْأَشْيَاءِ بَيْنَ النَّاسِ سَوَاءٍ بِدُونِ اسْتِحْقَاقٍ .
فَالْعَدْلُ وَسَطٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ ، هُمَا : الْإِفْرَاطُ فِي تَخْوِيلِ ذِي الْحَقِّ حَقَّهُ ، أَيْ بِإِعْطَائِهِ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ ، وَالتَّفْرِيطُ فِي ذَلِكَ ، أَيْ بِالْإِجْحَافِ لَهُ مِنْ حَقِّهِ ، وَكِلَا الطَّرَفَيْنِ يُسَمَّى جَوْرًا ، وَكَذَلِكَ الْإِفْرَاطُ وَالتَّفْرِيطُ فِي تَنْفِيذِ الْإِعْطَاءِ بِتَقْدِيمِهِ عَلَى وَقْتِهِ ، كَإِعْطَاءِ الْمَالِ بِيَدِ السَّفِيهِ ، أَوْ تَأْخِيرِهِ كَإِبْقَاءِ الْمَالِ بِيَدِ الْوَصِيِّ بَعْدَ الرُّشْدِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=5وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ إِلَى قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=6فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمُ أَمْوَالَهُمْ ؛ فَالْعَدْلُ يَدْخُلُ فِي جَمِيعِ الْمُعَامَلَاتِ . وَهُوَ حَسَنٌ فِي الْفِطْرَةِ لِأَنَّهُ كَمَا يَصُدُّ الْمُعْتَدِيَ عَنِ اعْتِدَائِهِ ،
[ ص: 95 ] كَذَلِكَ يَصُدُّ غَيْرَهُ عَنِ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=279لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ .
وَإِذْ قَدْ كَانَ الْعَدْلُ بِهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ تَجُولُ فِي تَحْدِيدِهِ أَفْهَامٌ مُخْطِئَةٌ تَعَيَّنَ أَنْ تُسَنَّ الشَّرَائِعُ لِضَبْطِهِ عَلَى حَسَبِ مَدَارِكِ الْمُشَرِّعِينَ وَمُصْطَلَحَاتِ الْمُشَرَّعِ لَهُمْ ، عَلَى أَنَّهَا مُعْظَمَهَا لَمْ يَسْلَمْ مِنْ تَحْرِيفٍ لِحَقِيقَةِ الْعَدْلِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ .
فَإِنَّ بَعْضَ الْقَوَانِينِ أُسِّسَتْ بِدَافِعَةِ الْغَضَبِ وَالْأَنَانِيَّةِ ، فَتَضَمَّنَتْ أَخْطَاءً فَاحِشَةً مِثْلَ الْقَوَانِينِ الَّتِي يُمْلِيهَا الثُّوَّارُ بِدَافِعِ الْغَضَبِ عَلَى مَنْ كَانُوا مُتَوَلِّينَ الْأُمُورَ قَبْلَهُمْ ، وَبَعْضُ الْقَوَانِينِ الْمُتَفَرِّعَةِ عَنْ تَخَيُّلَاتٍ وَأَوْهَامٍ ، كَقَوَانِينِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْأُمَمِ الْعَرِيقَةِ فِي الْوَثَنِيَّةِ .
وَنَجِدُ الْقَوَانِينَ الَّتِي سَنَّهَا الْحُكَمَاءُ أَمْكَنَ فِي تَحْقِيقِ مَنَافِعِ الْعَدْلِ مِثْلَ قَوَانِينِ
أَثِينَةَ وَإِسْبَرْطَةَ ، وَأَعْلَى الْقَوَانِينِ هِيَ الشَّرَائِعُ الْإِلَهِيَّةُ لِمُنَاسَبَتِهَا لِحَالِ مَنْ شُرِّعَتْ لِأَجْلِهِمْ ، وَأَعْظَمُهَا شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ لِابْتِنَائِهَا عَلَى أَسَاسِ الْمَصَالِحِ الْخَالِصَةِ أَوِ الرَّاجِحَةِ ، وَإِعْرَاضِهَا عَنْ أَهْوَاءِ الْأُمَمِ وَالْعَوَائِدِ الضَّالَّةِ ، فَإِنَّهَا لَا تَعْبَأُ بِالْأَنَانِيَّةِ وَالْهَوَى ، وَلَا بِعَوَائِدِ الْفَسَادِ ، وَلِأَنَّهَا لَا تُبْنَى عَلَى مَصَالِحِ قَبِيلَةٍ خَاصَّةٍ ، أَوْ بَلَدٍ خَاصٍّ ، بَلْ تُبْتَنَى عَلَى مَصَالِحِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ وَتَقْوِيمِهِ وَهَدْيِهِ إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ ، وَمِنْ أَجْلِ هَذَا لَمْ يَزَلِ الصَّالِحُونَ مِنَ الْقَادَةِ يُدَوِّنُونَ بَيَانَ الْحُقُوقِ حِفْظًا لِلْعَدْلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَخَاصَّةً الشَّرَائِعَ الْإِلَهِيَّةَ .
قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أَيِ الْعَدْلِ . فَمِنْهَا الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ الْبَشَرِيَّةِ وَمِنْهَا مَا اسْتَنْبَطَهُ عُلَمَاءُ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ مُدْرَجٌ فِيهَا وَمُلْحَقٌ بِهَا .
وَإِنَّمَا قُيِّدَ الْأَمْرُ بِالْعَدْلِ بِحَالَةِ التَّصَدِّي لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ ، وَأُطْلِقَ الْأَمْرُ بِرَدِّ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا عَنِ التَّقْيِيدِ : لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَقَعَ بِيَدِهِ أَمَانَةٌ لِغَيْرِهِ لَا سِيَّمَا عَلَى اعْتِبَارِ تَعْمِيمِ الْمُرَادِ بِالْأَمَانَاتِ الشَّامِلِ لِمَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ إِبْلَاغُهُ لِمُسْتَحِقِّهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، بِخِلَافِ الْعَدْلِ فَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِهِ وُلَاةُ الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ أَهْلًا لِتَوَلِّي ذَلِكَ فَتِلْكَ نُكْتَةُ قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ .
قَالَ الْفَخْرُ : قَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58وَإِذَا حَكَمْتُمْ هُوَ كَالتَّصْرِيحِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِجَمِيعِ النَّاسِ أَنْ يَشْرَعُوا فِي الْحُكْمِ بَلْ ذَلِكَ لِبَعْضِهِمْ ، فَالْآيَةُ مُجْمَلَةٌ فِي أَنَّهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ يَصِيرُ حَاكِمًا وَلَمَّا دَلَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْأُمَّةِ مِنْ إِمَامٍ وَأَنَّهُ يُنَصِّبُ الْقُضَاةَ وَالْوُلَاةَ وَصَارَتْ تِلْكَ الدَّلَائِلُ لِهَذِهِ الْآيَةِ .
[ ص: 96 ] وَجُمْلَةُ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّحْرِيضِ عَلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ ، فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيلِ ، وَأَغْنَتْ إِنَّ فِي صَدْرِ الْجُمْلَةِ عَنْ ذِكْرِ فَاءِ التَّعْقِيبِ ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ إِذَا جَاءَتْ ( إِنَّ ) لِلِاهْتِمَامِ دُونَ التَّأْكِيدِ .
وَنِعِمَّا أَصْلُهُ ( نِعْمَ مَا ) رُكِّبَتْ ( نِعْمَ ) مَعَ ( مَا ) بَعْدَ طَرْحِ حَرَكَةِ الْمِيمِ الْأَوْلَى وَتَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَأُدْغِمَ الْمِيمَانِ وَحُرِّكَتِ الْعَيْنُ السَّاكِنَةُ بِالْكَسْرِ لِلتَّخَلُّصِ مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ .
وَ ( مَا ) جَوَّزَ النُّحَاةُ أَنْ تَكُونَ اسْمًا مَوْصُولًا ، أَوْ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً ، أَوْ نَكِرَةً تَامَّةً . وَالْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَ ( مَا ) تَجْرِي عَلَى مَا يُنَاسِبُ مَعْنَى ( مَا ) ، وَقِيلَ : ( مَا ) زَائِدَةٌ كَافَّةٌ ( نِعْمَ ) عَنِ الْعَمَلِ .
وَالْوَعْظُ : التَّذْكِيرُ وَالنُّصْحُ ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ زَجْرٌ وَتَخْوِيفٌ .
وَجُمْلَةُ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا أَيْ عَلِيمًا بِمَا تَفْعَلُونَ وَمَا تَقُولُونَ ، وَهَذِهِ بِشَارَةٌ وَنِذَارَةٌ .