[ ص: 290 ] باب
nindex.php?page=treesubj&link=16576الكفارة قبل الحنث وبعده
مسألة : قال
الشافعي رحمه الله : "
nindex.php?page=treesubj&link=16577ومن حلف على شيء وأراد أن يحنث فأحب إلي لو لم يكفر حتى يحنث ، فإن كفر قبل الحنث بغير الصيام أجزأه ، وإن صام لم يجزه : لأنا نزعم أن لله على العباد حقا في أموالهم ،
وتسلف النبي - صلى الله عليه وسلم - من العباس صدقة عام قبل أن يدخل ، وإن المسلمين قدموا صدقة الفطر قبل أن يكون الفطر ، فجعلنا الحقوق في الأموال قياسا على هذا ، فأما الأعمال التي على الأبدان فلا تجزئ إلا بعد مواقيتها كالصلاة والصوم " .
قال
الماوردي : قد ذكرنا أن كفارة اليمين تجب على ماض ومستقبل ، فأما
nindex.php?page=treesubj&link=16576_16536اليمين على ماض ، فالكفارة فيه واجبة بعقد اليمين وحده إذا كانت كذبا ، ولا يجوز تقديم الكفارة فيها قبل وجوبها : سواء كفر بإطعام أو صيام ؛ لأنها لا تجب إلا بسبب واحد ، وهو عقد اليمين ، وأما
nindex.php?page=treesubj&link=16576_16536اليمين على مستقبل فالكفارة فيها واجبة بعقد اليمين والحنث ، فتعلق وجوبها بسببين عقد وحنث ، وله في التكفير بها ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يكفر قبل اليمين والحنث فلا تجزئه ، سواء كفر بمال أو صيام لفقد كل واحد من السببين كما لا يجزئه إذا عجل زكاة ماله قبل ملك النصاب والحول .
والحال الثانية : أن يكفر بعد اليمين فلا يحنث فيجزئه ، سواء كفر بمال أو صيام ، وقد أخرجها بعد وجوبها ، فصار كإخراج الزكاة بعد حولها .
والحال الثالثة : أن يكفر بعد اليمين ، وقبل الحنث فيكون كتعجيل الزكاة بعد ملك النصاب وقبل الحول ، فقد اختلف الفقهاء في تعجيلها على ثلاثة مذاهب :
أحدها : وهو مذهب
أبي حنيفة يجوز
nindex.php?page=treesubj&link=3059تعجيل الزكاة قبل الحول ، ولا يجوز
nindex.php?page=treesubj&link=16577تعجيل الكفارة قبل الحنث .
والمذهب الثاني : وهو مذهب
مالك ، لا يجوز تعجيل الزكاة قبل الحول ، ويجوز تعجيل الكفارة قبل الحنث .
والمذهب الثالث : وهو مذهب
الشافعي أنه يجوز تعجيل الزكاة قبل الحول ،
[ ص: 291 ] ويجوز تعجيل الكفارة قبل الحنث إذا كانت بمال من كسوة أو إطعام أو عتق ، فلا يجوز تعجيلها إذا كانت بصيام .
وقال
أحمد بن حنبل : يجوز تعجيلها قبل الحنث بمال أو صيام .
فأما
مالك فهو موافق في تعجيل الكفارة مخالف في تعجيل الزكاة ، وقد مضى الكلام في موضعه .
وأما
أبو حنيفة فقد مضى الكلام معه في تعجيل الزكاة ، ويتعين الكلام معه هاهنا في
nindex.php?page=treesubj&link=16577تعجيل الكفارة قبل الحنث . وله في الاستدلال طريقان :
أحدهما : المنع من تعجيل الكفارة قبل الحنث .
والثاني : أن الكفارة تجب بالحنث وحده دون اليمين ، واستدل على المنع من تعجيلها بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925395من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ، ثم ليكفر عن يمينه فكان له من الخير دليلان :
أحدهما : قوله : " فليأت الذي هو خير منها " فقدم فعل الحنث على الكفارة بحرف الفاء الموجب للتعقيب .
والثاني : قوله : " ثم ليكفر عن يمينه " وثم موضع للتعقيب والتراخي .
ومن القياس أن يكفر قبل الحنث فلم يحرم كالصيام .
ولأن كل حال لا يجوز التكفير فيها بالصيام لم يجز التكفير فيها بالمال قياسا على ما قبل اليمين ، واستدل على وجوب الكفارة بالحنث وحده دون اليمين بأمرين : أحدهما : أن الحنث ضد اليمين ؛ لأن اليمين تمنع من الحنث ، والضدان لا يشتركان في معنى الوجوب لتنافيهما .
والثاني : أن الحنث لو كان أحد السببين في الوجوب لما روعي بعد عقد اليمين إحداث فعل من جهة ، كما لا يراعى في الحول بعد النصاب إحداث فعل من جهته ، ولما روعي في الكفارة حدوث فعل الحنث من جهته دل على أن فعل الحنث هو الموجب للكفارة كما نقول : إن الظهار وإن لم يكن إلا بعد عقد النكاح لما كان بفعل حادث منه ، كان الظهار هو الموجب للكفارة ، دون النكاح .
والدليل على جواز تعجيل الكفارة قبل الحنث ما رواه
مالك ، عن
سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن
أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925396من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه ، وليأت الذي هو خير .
وروى
قتادة عن
الحسن ، عن
عبد الرحمن بن سمرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925397يا [ ص: 292 ] عبد الرحمن إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها ، فكفر ثم ائت الذي هو خير فجوز في هذين الحديثين تعجيل الكفارة قبل الحنث .
فإن قيل : فقد روي فيها وفي الخبر المتقدم تأخير الكفارة عن الحنث فعنه جوابان :
أحدهما : أن تقديم الكفارة أشهر من تقديم الحنث .
والثاني : أننا نستعمل الروايتين معا ، فنحمل تقديم الكفارة على الجواز وتأخيرها على الوجوب ، ونستعملها على وجه ثان أن يحمل تقديمها على التكفير بالمال ، وتأخيرها على التكفير بالصيام . فتكون باستعمال الخيرين أسعد ممن استعمل أحدهما وأسقط الآخر .
ومن القياس ما يوافق عليه
أبو حنيفة أنه لو
nindex.php?page=treesubj&link=23618جرح إنسانا وعجل كفارة قتله بعد جرحه وقبل موته أجزاه ، وكذلك لو
nindex.php?page=treesubj&link=17047جرح المحرم صيدا لو قدم جزاءه بعد جرحه وقبل موته أجزاه ، فجعل هذا معه أصلا للقياس فنقول : يكفر لتعلق وجوبه بسببين فجاز تقديمه بعد وجود أحدهما قياسا على كفارة وجزاء الصيد ؛ ولأنه يكفر بمال بعد عقد اليمين فوجب أن يجزئه قياسا على ما بعد الحنث .
ولأنه حق مال يجب بسببين يختصان به فجاز تقديمه على أحدهما قياسا على تعجيل الزكاة ، فإن منعوا من وجوبها بسببين دللنا على وجوبها بالحنث واليمين لقول الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=89ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان [ المائدة : 89 ] وبقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=89ذلك كفارة أيمانكم [ المائدة : 89 ] فجعلها تكفيرا لليمين ، فلم يجز أن يخرج من شرط الوجوب ؛ ولأن الكفارة حكم متعلق بالحنث ، فوجب أن يتعلق باليمين ، كما لو
nindex.php?page=treesubj&link=23956قال : إن دخلت الدار فعبدي حر كان عتقه متعلقا بيمينه بدخول الدار ، وإن منع أصحاب
أبي حنيفة من تعليق عتقه بيمينه وبدخول الدار ، وارتكبوا أن عتقه مختص بدخول الدار وحده منعوا من ارتكاب هذه الدعوى بما لا يدفعونه من أصل
أبي حنيفة في هذا العبد إذا ادعى العتق باليمين والحنث ، فأنكره السيد ، فأقام العبد عليه شاهدين باليمين وشاهدين بالحنث وحكم الحاكم بعتقه ، ثم رجع شاهدا اليمين وشاهدا الحنث قال
أبو حنيفة : تجب قيمته على شاهدي اليمين خاصة نصفين وعندنا تجب على شاهدي اليمين وشاهدي الحنث أرباعا ، فقد جعل عتقه باليمين أحق من الحنث ، فكانت الأيمان بالله أولى .
وأما الجواب عن الخبر فقد مضى .
وأما الجواب عن القياس على تعجيل الصيام ، فهو أن الصيام من حقوق الأبدان
[ ص: 293 ] فلم يجز تقديمه قبل وجوبه كما لا يجوز تقديم الصلاة وصيام شهر رمضان على وجوبهما ، والمال مما يجوز تقديمه قبل وجوبه لتعجيل الزكاة ، ومثله ما يقوله في حقوق الآدميين : إن تقديم ما تعلق بالمال من الديون المؤجلة قبل محلها جائز ، وتقديم ما تعلق بالأبدان من القصاص وحد القذف قبل وجوبها غير جائز ، وفي هذا دليل على
أحمد بن حنبل في جمعه بين الأمرين في الجواز .
وعبر آخر ، وهو أن الصيام في الكفارة يجوز بعد العجز عن المال في وقت الاستحقاق ، فلاعتباره عند الحنث لم يجز تقديمه قبل الحنث ، فخالف المال في هذا المعنى .
وأما الجواب عن قياسهم على تعجيلها قبل اليمين فهو أنه لم يوجد أحد سببي الوجوب ، فامتنع التقديم كما امتنع تعجيل الزكاة قبل ملك النصاب ، وجاز بعد اليمين لوجود أحد السببين كما جاز تعجيل الزكاة بعد ملك النصاب .
وأما الجواب عن استدلالهم بأن الحنث ضد اليمين فلم يجز أن يشتركا في الوجوب ، فهو أن اليمين عقد والحنث حل ، والحل لا يكون إلا بعد عقد فلم يتضادا ، وإن اختلفا كما أن قوله : " لا إله " كفر ، وقوله : " إلا الله " إيمان ، فإذا اجتمعا كان الإيمان بهما منعقدا ولم يتنافيا بالمضادة .
وأما الجواب عن استدلالهم بأن تعلق الكفارة بإحداث فعل يمنع من تعلقها بما تقدمه من اليمين ، كالظهار يمنع من وجود الكفارة فيه بالنكاح وهو من وجهين :
أحدهما : أن الحنث في الأيمان ما لا يتعلق له بإحداث فعل ، وهو أن يقول : والله لأدخلن الدار في يومي هذا ، فينقضي اليوم قبل دخولها حنث بغير فعله ، وقد منع
أبو حنيفة من تعجيل الكفارة فيه ، فبطل أن يكون إحداث الفعل عليه في اختصاصه بالوجوب ، فكان يلزم
أبا حنيفة إن أراد صحة تعليله أن يجيز تقديم الكفارة في اختصاصه بالوجوب فيما لم يكن الحنث بفعله ، ويمتنع منهما فيما كان الحنث بفعله .
والثاني : أن المقصود بعقد النكاح غير الظهار فلم يكن سببا في وجوب التكفير فيه ، وإنما
nindex.php?page=treesubj&link=12141تجب كفارة الظهار بالظهار والعود ، ويجوز تعجيلها قبل الظهار وقبل العود ، وعقد اليمين متردد بين أمرين من بر وحنث فصار لوقوفه بينهما سببا في وجوب التكفير على أن
أبا علي بن أبي هريرة يقول : إن كفارة الظهار تجب بثلاثة أسباب بعقد النكاح ، وبلفظ الظهار ، وبالعود ، فلم يجز تقديمها بعد النكاح وقبل الظهار لوجود سبب واحد وبقاء سببين . وعلل بعض أصحابنا بأن الظهار محرم ، فلم يجز تعجيل الكفارة فيه لأنه يؤدي إلى استباحة محظور عليه ، والحنث غير محرم ، فجاء من هذا التعليل أن يعتبر حال الحنث في الأيمان ، فإن كان واجبا كمن حلف : لا صليت فرضا أو مستحبا كمن حلف :
[ ص: 294 ] لا صليت نفلا ، أو مباحا كمن حلف : لا أكلت لحما ، جاز تعجيل الكفارة فيها قبل الحنث ، وإن كان الحنث محظورا كمن حلف بالله لا شربت خمرا ، ولا قتلت نفسا لم يجز تعجيل الكفارة فيها قبل الحنث ، فصار تعجيلها فيما لم يكن محظورا جائزا وجها واحدا ، وجواز تعجيلها فيما كان حنثه محظورا على وجهين . فأما
nindex.php?page=treesubj&link=17160تعجيل جزاء الصيد قبل إحرامه ، وقبل قتله وجرحه ، فلا يجوز وجها واحدا وإن اختلفوا في تعليله ، فعند
أبي علي بن أبي هريرة أن علة المنع أن الجزاء متعلق بثلاثة أشياء : بالإحرام والجراح والموت ، فلم يجز تعجيله بفقد أحدها وبقاء أكثرها ، وعند من راعى الحظر والإباحة علل بأن تقديم الجزاء موجب لاستباحة محظور ، فلم يجز فإن حل له قتل الصيد لضرورة إليه ، قال صاحب هذا التعليل ، وحكاه عنه
أبو إسحاق المروزي : يجوز له تعجيل جزائه بعد إحرامه وقبل قتله ، وعند جمهور أصحابنا أن علة المنع أن الإحرام غير مقصود لقتل الصيد ، فلم يكن مسببا لوجوب الجزاء ، فأما تعجيل الجزاء بعد الجراح وقبل الموت ، فجائز باتفاقهم وإن وهم فيه
أبو حامد الإسفراييني فخرجه على وجهين : لأنه ليس يستبيح بالجزاء بعد الجزاء محظورا ؛ لأن موت الصيد حادث عن الجرح المتقدم قبل تكفيره . والله أعلم .
[ ص: 290 ] بَابُ
nindex.php?page=treesubj&link=16576الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ
الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : "
nindex.php?page=treesubj&link=16577وَمَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ وَأَرَادَ أَنْ يَحْنَثَ فَأَحَبُّ إِلَيَّ لَوْ لَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى يَحْنَثَ ، فَإِنْ كَفَّرَ قَبْلَ الْحِنْثِ بِغَيْرِ الصِّيَامِ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ صَامَ لَمْ يُجْزِهِ : لَأَنَا نَزْعُمُ أَنَّ لِلَّهِ عَلَى الْعِبَادِ حَقًّا فِي أَمْوَالِهِمْ ،
وَتَسَلَّفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْعَبَّاسِ صَدَقَةَ عَامٍ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ ، وَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدَّمُوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ الْفِطْرُ ، فَجَعَلْنَا الْحُقُوقَ فِي الْأَمْوَالِ قِيَاسًا عَلَى هَذَا ، فَأَمَّا الْأَعْمَالُ الَّتِي عَلَى الْأَبْدَانِ فَلَا تُجْزِئُ إِلَّا بَعْدَ مَوَاقِيتِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ " .
قَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ تَجِبُ عَلَى مَاضٍ وَمُسْتَقْبَلٍ ، فَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=16576_16536الْيَمِينُ عَلَى مَاضٍ ، فَالْكَفَّارَةُ فِيهِ وَاجِبَةٌ بِعَقْدِ الْيَمِينِ وَحْدَهُ إِذَا كَانَتْ كَذِبًا ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ فِيهَا قَبْلَ وُجُوبِهَا : سَوَاءٌ كَفَّرَ بِإِطْعَامٍ أَوْ صِيَامٍ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ عَقْدُ الْيَمِينِ ، وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=16576_16536الْيَمِينُ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ فَالْكَفَّارَةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ بِعَقْدِ الْيَمِينِ وَالْحِنْثِ ، فَتَعَلَّقَ وُجُوبُهَا بِسَبَبَيْنِ عَقَدٍ وَحِنْثٍ ، وَلَهُ فِي التَّكْفِيرِ بِهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يُكَفِّرَ قَبْلَ الْيَمِينِ وَالْحِنْثِ فَلَا تُجْزِئُهُ ، سَوَاءٌ كَفَّرَ بِمَالٍ أَوْ صِيَامٍ لِفَقْدِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ السَّبَبَيْنِ كَمَا لَا يُجْزِئُهُ إِذَا عَجَّلَ زَكَاةَ مَالِهِ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ وَالْحَوْلِ .
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يُكَفِّرَ بَعْدَ الْيَمِينِ فَلَا يَحْنَثُ فَيُجْزِئُهُ ، سَوَاءٌ كَفَّرَ بِمَالٍ أَوْ صِيَامٍ ، وَقَدْ أَخْرَجَهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا ، فَصَارَ كَإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ بَعْدَ حَوْلِهَا .
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُكَفِّرَ بَعْدَ الْيَمِينِ ، وَقَبْلَ الْحِنْثِ فَيَكُونُ كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ وَقَبْلَ الْحَوْلِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْجِيلِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ :
أَحَدُهَا : وَهُوَ مَذْهَبُ
أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ
nindex.php?page=treesubj&link=3059تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ ، وَلَا يَجُوزُ
nindex.php?page=treesubj&link=16577تَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ .
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ
مَالِكٍ ، لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ ، وَيَجُوزُ تَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ .
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ ،
[ ص: 291 ] وَيَجُوزُ تَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ إِذَا كَانَتْ بِمَالٍ مِنْ كِسْوَةٍ أَوْ إِطْعَامٍ أَوْ عِتْقٍ ، فَلَا يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا إِذَا كَانَتْ بِصِيَامٍ .
وَقَالَ
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا قَبْلَ الْحِنْثِ بِمَالٍ أَوْ صِيَامٍ .
فَأَمَّا
مَالِكٌ فَهُوَ مُوَافِقٌ فِي تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ مُخَالِفٌ فِي تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي مَوْضِعِهِ .
وَأَمَّا
أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ ، وَيَتَعَيَّنُ الْكَلَامُ مَعَهُ هَاهُنَا فِي
nindex.php?page=treesubj&link=16577تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ . وَلَهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ طَرِيقَانِ :
أَحَدُهُمَا : الْمَنْعُ مِنْ تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِالْحِنْثِ وَحْدَهُ دُونَ الْيَمِينِ ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ تَعْجِيلِهَا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925395مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، ثُمَّ لِيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ فَكَانَ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ دَلِيلَانِ :
أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ : " فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا " فَقَدَّمَ فِعْلَ الْحِنْثِ عَلَى الْكَفَّارَةِ بِحَرْفِ الْفَاءِ الْمُوجِبِ لِلتَّعْقِيبِ .
وَالثَّانِي : قَوْلُهُ : " ثُمَّ لِيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ " وَثُمَّ مَوْضِعٌ لِلتَّعْقِيبِ وَالتَّرَاخِي .
وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنْ يُكَفِّرَ قَبْلَ الْحِنْثِ فَلَمْ يُحَرَّمْ كَالصِّيَامِ .
وَلِأَنَّ كُلَّ حَالٍ لَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ فِيهَا بِالصِّيَامِ لَمْ يَجُزِ التَّكْفِيرُ فِيهَا بِالْمَالِ قِيَاسًا عَلَى مَا قَبْلَ الْيَمِينِ ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْحِنْثِ وَحْدَهُ دُونَ الْيَمِينِ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحِنْثَ ضِدُّ الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَمْنَعُ مِنَ الْحِنْثِ ، وَالضِّدَّانِ لَا يَشْتَرِكَانِ فِي مَعْنَى الْوُجُوبِ لِتَنَافِيهِمَا .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْحِنْثَ لَوْ كَانَ أَحَدَ السَّبَبَيْنِ فِي الْوُجُوبِ لَمَا رُوعِيَ بَعْدَ عَقْدِ الْيَمِينِ إِحْدَاثُ فِعْلٍ مِنْ جِهَةٍ ، كَمَا لَا يُرَاعَى فِي الْحَوْلِ بَعْدَ النِّصَابِ إِحْدَاثُ فِعْلٍ مِنْ جِهَتِهِ ، وَلَمَّا رُوعِيَ فِي الْكَفَّارَةِ حُدُوثُ فِعْلِ الْحِنْثِ مِنْ جِهَتِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْحِنْثِ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْكَفَّارَةِ كَمَا نَقُولُ : إِنَّ الظِّهَارَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ لِمَا كَانَ بِفِعْلٍ حَادِثٍ مِنْهُ ، كَانَ الظِّهَارُ هُوَ الْمُوجِبَ لِلْكَفَّارَةِ ، دُونَ النِّكَاحِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ مَا رَوَاهُ
مَالِكٌ ، عَنْ
سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925396مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ، وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ .
وَرَوَى
قَتَادَةُ عَنِ
الْحَسَنِ ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925397يَا [ ص: 292 ] عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا ، فَكَفِّرْ ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ فَجَوَّزَ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ تَعْجِيلَ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ فِيهَا وَفِي الْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ تَأْخِيرُ الْكَفَّارَةِ عَنِ الْحِنْثِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ أَشْهَرُ مِنْ تَقْدِيمِ الْحِنْثِ .
وَالثَّانِي : أَنَّنَا نَسْتَعْمِلُ الرِّوَايَتَيْنِ مَعًا ، فَنَحْمِلُ تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْجَوَازِ وَتَأْخِيرَهَا عَلَى الْوُجُوبِ ، وَنَسْتَعْمِلُهَا عَلَى وَجْهٍ ثَانٍ أَنْ يُحْمَلَ تَقْدِيمُهَا عَلَى التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ ، وَتَأْخِيرُهَا عَلَى التَّكْفِيرِ بِالصِّيَامِ . فَتَكُونُ بِاسْتِعْمَالِ الْخَيْرَيْنِ أَسْعَدَ مِمَّنِ اسْتَعْمَلَ أَحَدَهُمَا وَأَسْقَطَ الْآخَرَ .
وَمِنَ الْقِيَاسِ مَا يُوَافِقُ عَلَيْهِ
أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ
nindex.php?page=treesubj&link=23618جَرَحَ إِنْسَانًا وَعَجَّلَ كَفَّارَةَ قَتْلِهِ بَعْدَ جُرْحِهِ وَقَبْلَ مَوْتِهِ أَجْزَاهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ
nindex.php?page=treesubj&link=17047جَرَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا لَوْ قَدَّمَ جَزَاءَهُ بَعْدَ جُرْحِهِ وَقَبْلَ مَوْتِهِ أَجْزَاهُ ، فَجَعَلَ هَذَا مَعَهُ أَصْلًا لِلْقِيَاسِ فَنَقُولُ : يُكَفِّرُ لِتَعَلُّقِ وُجُوبِهِ بِسَبَبَيْنِ فَجَازَ تَقْدِيمُهُ بَعْدَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ ؛ وَلِأَنَّهُ يُكَفِّرُ بِمَالٍ بَعْدَ عَقْدِ الْيَمِينِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَهُ قِيَاسًا عَلَى مَا بَعْدَ الْحِنْثِ .
وَلِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ يَجِبُ بِسَبَبَيْنِ يَخْتَصَّانِ بِهِ فَجَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا قِيَاسًا عَلَى تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ ، فَإِنْ مَنَعُوا مِنْ وُجُوبِهَا بِسَبَبَيْنِ دَلَّلْنَا عَلَى وُجُوبِهَا بِالْحِنْثِ وَالْيَمِينِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=89وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ [ الْمَائِدَةِ : 89 ] وَبِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=89ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 89 ] فَجَعَلَهَا تَكْفِيرًا لِلْيَمِينِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ شَرْطِ الْوُجُوبِ ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْحِنْثِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْيَمِينِ ، كَمَا لَوْ
nindex.php?page=treesubj&link=23956قَالَ : إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَعَبْدِي حُرٌّ كَانَ عِتْقُهُ مُتَعَلِّقًا بِيَمِينِهِ بِدُخُولِ الدَّارِ ، وَإِنْ مَنَعَ أَصْحَابُ
أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ تَعْلِيقِ عِتْقِهِ بِيَمِينِهِ وَبِدُخُولِ الدَّارِ ، وَارْتَكَبُوا أَنَّ عِتْقَهُ مُخْتَصٌّ بِدُخُولِ الدَّارِ وَحْدَهُ مَنَعُوا مِنِ ارْتِكَابِ هَذِهِ الدَّعْوَى بِمَا لَا يَدْفَعُونَهُ مِنْ أَصْلِ
أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا الْعَبْدِ إِذَا ادَّعَى الْعِتْقَ بِالْيَمِينِ وَالْحِنْثِ ، فَأَنْكَرَهُ السَّيِّدُ ، فَأَقَامَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ بِالْيَمِينِ وَشَاهِدَيْنِ بِالْحِنْثِ وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِعِتْقِهِ ، ثُمَّ رَجَعَ شَاهِدَا الْيَمِينِ وَشَاهِدَا الْحِنْثِ قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ : تَجِبُ قِيمَتُهُ عَلَى شَاهِدَيِ الْيَمِينِ خَاصَّةً نِصْفَيْنِ وَعِنْدَنَا تَجِبُ عَلَى شَاهِدَيِ الْيَمِينِ وَشَاهِدَيِ الْحِنْثِ أَرْبَاعًا ، فَقَدْ جَعَلَ عِتْقَهُ بِالْيَمِينِ أَحَقَّ مِنَ الْحِنْثِ ، فَكَانَتِ الْأَيْمَانُ بِاللَّهِ أَوْلَى .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَقَدْ مَضَى .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْقِيَاسِ عَلَى تَعْجِيلِ الصِّيَامِ ، فَهُوَ أَنَّ الصِّيَامَ مِنْ حُقُوقِ الْأَبْدَانِ
[ ص: 293 ] فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى وُجُوبِهِمَا ، وَالْمَالُ مِمَّا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ لِتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ ، وَمِثْلُهُ مَا يَقُولُهُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ : إِنَّ تَقْدِيمَ مَا تَعَلَّقَ بِالْمَالِ مِنَ الدِّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ قَبْلَ مَحَلِّهَا جَائِزٌ ، وَتَقْدِيمَ مَا تَعَلَّقَ بِالْأَبْدَانِ مِنَ الْقَصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ قَبْلَ وُجُوبِهَا غَيْرُ جَائِزٍ ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي جَمْعِهِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي الْجَوَازِ .
وَعِبْرٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّ الصِّيَامَ فِي الْكَفَّارَةِ يَجُوزُ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمَالِ فِي وَقْتِ الِاسْتِحْقَاقِ ، فَلِاعْتِبَارِهِ عِنْدَ الْحِنْثِ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ الْحِنْثِ ، فَخَالَفَ الْمَالُ فِي هَذَا الْمَعْنَى .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى تَعْجِيلِهَا قَبْلَ الْيَمِينِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ أَحَدُ سَبَبَيِ الْوُجُوبِ ، فَامْتَنَعَ التَّقْدِيمُ كَمَا امْتَنَعَ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ ، وَجَازَ بَعْدَ الْيَمِينِ لِوُجُودِ أَحَدِ السَّبَبَيْنِ كَمَا جَازَ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْحِنْثَ ضِدُّ الْيَمِينِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْوُجُوبِ ، فَهُوَ أَنَّ الْيَمِينَ عَقْدٌ وَالْحِنْثَ حَلٌّ ، وَالْحَلُّ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ عَقْدٍ فَلَمْ يَتَضَادَّا ، وَإِنِ اخْتَلَفَا كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ : " لَا إِلَهَ " كُفْرٌ ، وَقَوْلُهُ : " إِلَّا اللَّهُ " إِيمَانٌ ، فَإِذَا اجْتَمَعَا كَانَ الْإِيمَانُ بِهِمَا مُنْعَقِدًا وَلَمْ يَتَنَافَيَا بِالْمُضَادَّةِ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ تَعَلُّقَ الْكَفَّارَةِ بِإِحْدَاثِ فِعْلٍ يَمْنَعُ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْيَمِينِ ، كَالظِّهَارِ يَمْنَعُ مِنْ وُجُودِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ بِالنِّكَاحِ وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحِنْثَ فِي الْأَيْمَانِ مَا لَا يَتَعَلَّقُ لَهُ بِإِحْدَاثِ فِعْلٍ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : وَاللَّهِ لَأَدْخُلَنَّ الدَّارَ فِي يَوْمِي هَذَا ، فَيَنْقَضِي الْيَوْمُ قَبْلَ دُخُولِهَا حَنِثَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ، وَقَدْ مَنَعَ
أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ ، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ إِحْدَاثُ الْفِعْلِ عَلَيْهِ فِي اخْتِصَاصِهِ بِالْوُجُوبِ ، فَكَانَ يَلْزَمُ
أَبَا حَنِيفَةَ إِنْ أَرَادَ صِحَّةَ تَعْلِيلِهِ أَنْ يُجِيزَ تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ فِي اخْتِصَاصِهِ بِالْوُجُوبِ فِيمَا لَمْ يَكُنِ الْحِنْثُ بِفِعْلِهِ ، وَيَمْتَنِعُ مِنْهُمَا فِيمَا كَانَ الْحِنْثُ بِفِعْلِهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ غَيْرُ الظِّهَارِ فَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا فِي وُجُوبِ التَّكْفِيرِ فِيهِ ، وَإِنَّمَا
nindex.php?page=treesubj&link=12141تَجِبُ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ بِالظِّهَارِ وَالْعَوْدِ ، وَيَجُوزُ تَعْجِيلُهَا قَبْلَ الظِّهَارِ وَقَبْلَ الْعَوْدِ ، وَعَقْدُ الْيَمِينِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مِنْ بِرٍّ وَحِنْثٍ فَصَارَ لِوُقُوفِهِ بَيْنَهُمَا سَبَبًا فِي وُجُوبِ التَّكْفِيرِ عَلَى أَنَّ
أَبَا عَلِيِّ بْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ : إِنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ تَجِبُ بِثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ بِعَقْدِ النِّكَاحِ ، وَبِلَفْظِ الظِّهَارِ ، وَبِالْعَوْدِ ، فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا بَعْدَ النِّكَاحِ وَقَبْلَ الظِّهَارِ لِوُجُودِ سَبَبٍ وَاحِدٍ وَبَقَاءِ سَبَبَيْنِ . وَعَلَّلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِأَنَّ الظِّهَارَ مُحَرَّمٌ ، فَلَمْ يَجُزْ تَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ فِيهِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى اسْتِبَاحَةِ مَحْظُورٍ عَلَيْهِ ، وَالْحِنْثُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ ، فَجَاءَ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ الْحِنْثِ فِي الْأَيْمَانِ ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا كَمَنْ حَلَفَ : لَا صَلَّيْتُ فَرْضًا أَوْ مُسْتَحَبًّا كَمَنْ حَلَفَ :
[ ص: 294 ] لَا صَلَّيْتُ نَفْلًا ، أَوْ مُبَاحًا كَمَنْ حَلَفَ : لَا أَكَلْتُ لَحْمًا ، جَازَ تَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ فِيهَا قَبْلَ الْحِنْثِ ، وَإِنْ كَانَ الْحِنْثُ مَحْظُورًا كَمَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ لَا شَرِبْتُ خَمْرًا ، وَلَا قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ يَجُزْ تَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ فِيهَا قَبْلَ الْحِنْثِ ، فَصَارَ تَعْجِيلُهَا فِيمَا لَمْ يَكُنْ مَحْظُورًا جَائِزًا وَجْهًا وَاحِدًا ، وَجَوَازُ تَعْجِيلِهَا فِيمَا كَانَ حِنْثُهُ مَحْظُورًا عَلَى وَجْهَيْنِ . فَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=17160تَعْجِيلُ جَزَاءِ الصَّيْدِ قَبْلَ إِحْرَامِهِ ، وَقَبْلَ قَتْلِهِ وَجَرْحِهِ ، فَلَا يَجُوزُ وَجْهًا وَاحِدًا وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَعْلِيلِهِ ، فَعِنْدَ
أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ أَنَّ الْجَزَاءَ مُتَعَلِّقٌ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : بِالْإِحْرَامِ وَالْجِرَاحِ وَالْمَوْتِ ، فَلَمْ يَجُزْ تَعْجِيلُهُ بِفَقْدِ أَحَدِهَا وَبَقَاءِ أَكْثَرِهَا ، وَعِنْدَ مَنْ رَاعَى الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ عَلَّلَ بِأَنَّ تَقْدِيمَ الْجَزَاءِ مُوجِبٌ لِاسْتِبَاحَةِ مَحْظُورٍ ، فَلَمْ يَجُزْ فَإِنْ حَلَّ لَهُ قَتْلُ الصَّيْدِ لِضَرُورَةٍ إِلَيْهِ ، قَالَ صَاحِبُ هَذَا التَّعْلِيلِ ، وَحَكَاهُ عَنْهُ
أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ : يَجُوزُ لَهُ تَعْجِيلُ جَزَائِهِ بَعْدَ إِحْرَامِهِ وَقَبْلَ قَتْلِهِ ، وَعِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ أَنَّ الْإِحْرَامَ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِقَتْلِ الصَّيْدِ ، فَلَمْ يَكُنْ مُسَبِّبًا لِوُجُوبِ الْجَزَاءِ ، فَأَمَّا تَعْجِيلُ الْجَزَاءِ بَعْدَ الْجِرَاحِ وَقَبْلَ الْمَوْتِ ، فَجَائِزٌ بِاتِّفَاقِهِمْ وَإِنْ وَهِمَ فِيهِ
أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ فَخَرَّجَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ : لِأَنَّهُ لَيْسَ يَسْتَبِيحُ بِالْجَزَاءِ بَعْدَ الْجَزَاءِ مَحْظُورًا ؛ لِأَنَّ مَوْتَ الصَّيْدِ حَادِثٌ عَنِ الْجُرْحِ الْمُتَقَدِّمِ قَبْلَ تَكْفِيرِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .