179 - فصل
[ في معنى الفطرة ] .
فإن قيل : فهذا كله بناء منكم على أن
nindex.php?page=treesubj&link=28644الفطرة الأولى هي فطرة الإسلام ،
وأحمد قد نص على أن الفطرة هي ما فطر عليه من الشقاوة ، والسعادة ، فقال في رواية
الحسن بن ثواب :
nindex.php?page=treesubj&link=29619كل مولود من أطفال المشركين على الفطرة ، يولد على الفطرة التي خلقه الله عليها من الشقاوة ، والسعادة التي سبقت في الكتاب ، ارجع في ذلك إلى الأصل هذا معناه .
وقال في رواية
حنبل ،
وأبي الحارث ،
والفضل بن زياد : الفطرة التي فطر
[ ص: 945 ] العباد عليها من
[ الشقاوة ] ، والسعادة .
وقال في رواية
علي بن سعيد ، وقد سأله عن الحديث : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10343914كل مولود يولد على الفطرة " ، قال : على السعادة والشقاوة ، وإليه يرجع على ما خلق .
وقال
محمد بن يحيى الكحال : قلت
لأبي عبد الله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10343914كل مولود يولد على الفطرة " ما تفسيرها ؟ قال : هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها شقي أو سعيد ، وإذا كان هذا نصه في الفطرة ، فكيف يكتم مع مذهبه في الأطفال أنهم على الإسلام بموت آبائهم ؟
قيل : هذا موضع قد اضطربت فيه الأقدام ، وطال فيه النزاع ، والخصام ، ونحن نذكر فيه بعض ما انتهى إلينا من كلام أئمة الإسلام .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12074أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب " غريب الحديث " الذي هو لما بعده من كتب الغريب إمام : " سألت
محمد بن الحسن عن تفسير هذا الحديث ، فقال : كان هذا في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض ، وقبل أن يؤمر المسلمون بالجهاد " .
قال
أبو عبيد : " فأما
nindex.php?page=showalam&ids=16418عبد الله بن المبارك فإنه سئل عن تأويل هذا الحديث
[ ص: 946 ] الآخر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10343273أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أطفال المشركين ، فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " .
قال
أبو عبيد : فذهب إلى أنهم يولدون على ما يصيرون إليه من كفر ، أو إسلام .
قال
ابن قتيبة : حكى
أبو عبيد هذين القولين ، ولم يحل على نفسه في هذا قولا ولا اختيارا .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=17032محمد بن نصر المروزي في كتاب " الرد على
ابن قتيبة " : فيقال له : وما على رجل حكى اختلافا في شيء ، ولم يتبين له الصواب فأمسك عن التقدم على ما لم يتبين له صوابه ، ما على هذا من سبيل ، بل هو محمود على التوقف عما لم يتبين له عسى أن يتبين له ، بل العيب المذموم من اجترأ
[ ص: 947 ] على القول فيما لا علم له ، ففسر حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسيرا خالف فيه حكم الكتاب ، وخرج من قول أهل العلم ، وترك القياس والنظر ، فقال قولا لا يصلح في خبر ، ولا يقوم على نظر .
وهو هذا العائب على
أبي عبيد : زعم أن الفطرة التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن كل مولود يولد عليها : هي خلقه في كل مولود معرفة بربه ، وزعم أنه على معنى قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=172وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ) الآية ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=17032محمد بن نصر : قال الله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=78والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا ) ، فزعم هذا أنهم يعرفون أعظم الأشياء ، وهو الله تعالى ، فمن أعظم جرما ، وأشد مخالفة للكتاب من سمع الله عز وجل يقول : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=78والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا ) ، فزعم أنهم يعلمون أعظم الأشياء ، وهذا هو المعاند لرب العالمين ، والجاهل بالكتاب .
قلت : إن أراد
أبو محمد " المعرفة " المعرفة الثانية بالفعل التي هي للكبار ، فإنكار
أبي عبد الله عليه متوجه ، وإن أراد أنه مهيأ للمعرفة ، وأن المعرفة فيه بالقوة كما هو مهيأ للفعل والنطق لم يلزمه ما ذكره
أبو عبد الله [ ص: 948 ] كما إذا قيل : يولد ناطقا عاقلا بحيث إذا عقل عرف ربه بتلك القوة التي أودعها الله فيه دون الجمادات ، بحيث لو خلي وما فطر عليه ولم تغير فطرته لكان عارفا بربه ، موحدا له ، محبا له .
فإن قيل :
أبو عبد الله لم ينكر هذا ، وإنما أنكر أن يكون المراد بالفطرة الميثاق الأول الذي أخذه الله سبحانه من بني آدم من ظهورهم حين أشهدهم على أنفسهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=172ألست بربكم ) ، فأقروا بذلك ، ولا ريب أن هذه المعرفة ، والإقرار غير حاصلين من الطفل ، فصح إنكار
أبي عبد الله .
قيل :
ابن قتيبة إنما قال : الفطرة هي خلقه في كل مولود معرفة بربه على معنى قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=172وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) الآية ، وهذا لا يلزم منه أن تكون المعرفة حاصلة في المولود بالفعل ، وتشبيهه الحديث بالآية في هذا المعنى لا يدل على أن الميثاق الذي ذكر في الآية هو المعرفة الفعلية قبل خروجهم إلى الدنيا أحياء ناطقين ، وإن كان هذا قد قاله غير واحد من السلف والخلف فلا يلزم
ابن قتيبة أن يختار هذا القول ، بل هذا من حسن فهمه في القرآن ، والسنة : إذ حمل الحديث على الآية ، وفسر كلا منهما بالآخر . وقد قال هذا غير واحد من أهل العلم قبله وبعده ، وأحسن ما فسرت به الآية قوله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10343914كل مولود يولد على الفطرة : فأبواه يهودانه وينصرانه " فالميثاق الذي أخذه سبحانه عليهم ، والإشهاد الذي أشهدهم على أنفسهم ، والإقرار الذي أقروا به هو الفطرة التي فطروا عليها ؛ لأنه سبحانه احتج عليهم بذلك ، وهو لا يحتج
[ ص: 949 ] عليهم بما لا يعرفه أحد منهم ولا يذكره ، بل بما يشركون في معرفته ، والإقرار به .
وأيضا ، فإنه قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=172وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) ، ولم يقل " من
آدم " ، ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=172من ظهورهم ) ، ولم يقل : " من ظهرهم " ، ثم قال : ( ذريتهم ) ، ولم يقل : ( ذريته ) ، ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=172وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ) وهذا يقتضي إقرارهم بربوبيته إقرارا تقوم عليهم به الحجة ، وهذا إنما هو الإقرار الذي احتج به عليهم على ألسنة رسله كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=10قالت رسلهم أفي الله شك ) ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=87ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) ، : (
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=25ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ) ، : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=84قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=85سيقولون لله ) ، ونظائر ذلك كثيرة : يحتج عليهم بما فطروا عليه من الإقرار بربهم وفاطرهم ، ويدعوهم بهذا الإقرار إلى عبادته وحده ، وألا يشركوا به شيئا ، هذه طريقة القرآن .
ومن ذلك هذه الآية التي في " الأعراف " وهي قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=172وإذ أخذ ربك من بني آدم ) الآية ، ولهذا قال في آخرها : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=172أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=173أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون )
[ ص: 950 ] فاحتج عليهم بما أقروا به من ربوبيته على بطلان شركهم وعبادة غيره ، وألا يعتذروا ، إما بالغفلة عن الحق ، وإما بالتقليد في الباطل ، فإن الضلال له سببان : إما غفلة عن الحق ، وإما تقليد أهل الضلال ، فيطابق الحديث مع الآية ، ويبين معنى كل منهما بالآخر ، فلم يقع
ابن قتيبة في معاندة رب العالمين ، ولا جهل الكتاب ، ولا خرج عن المعقول ، ولكن لما ظن
أبو عبد الله أن معنى الآية أن الله سبحانه أخرجهم أحياء ناطقين من صلب
آدم في آن واحد ، ثم خاطبهم ، وكلمهم وأخذ عليهم الميثاق وأشهدهم على أنفسهم بربوبيته ، ثم ردهم في ظهره ، وأن
أبا محمد فسر الفطرة بهذا المعنى بعينه ألزمه ما ألزمه .
ثم قال
nindex.php?page=showalam&ids=17032محمد بن نصر : واحتج - يعني
ابن قتيبة - بقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=1الحمد لله فاطر السماوات ) خالقها ، وبقوله تعالى عن مؤمن آل فرعون في سورة يس : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=22وما لي لا أعبد الذي فطرني ) ، أي خلقني ، وبقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=30فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) ، قال : وكان
nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة - رضي الله عنه - يسرع بهذه الآية عند روايته لهذا الحديث ليدل على أن الفطرة خلقة .
[ ص: 951 ] قال
nindex.php?page=showalam&ids=17032محمد بن نصر : فيقال له : لسنا نخالفك في أن الفطرة خلقة في اللغة وأن فاطر السماوات والأرض خالقهما ، ولكن ما
[ الدليل ] على أن هذه الخلقة هي معرفة ؟ هل عندك من دليل من كتاب الله ، أو سنة رسوله أن الخلقة هي المعرفة ؟ فإن أتيت بحجة من كتاب الله أو سنة رسوله أن الخلقة هي المعرفة ، وإلا فأنت مبطل في دعواك ، وقائل ما لا علم لك به .
قلت : لم يرد
ابن قتيبة ولا من قال بقوله : " إن الفطرة خلقة " أنها معرفة حاصلة بالفعل مع المولود حين يولد ، فهذا لم يقله أحد ، وقد قال
أحمد في رواية
الميموني : الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها ، فقال له
الميموني : الفطرة الدين ؟ قال : نعم .
وقد نص في غير موضع أن الكافر إذا مات أبواه ، أو أحدهما حكم بإسلامه ، واستدل بالحديث : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10343914كل مولود يولد على الفطرة " ففسر الحديث بأنه يولد على فطرة الإسلام كما جاء ذلك مصرحا به في الحديث ، ولو لم يكن ذلك معناه عنده لما صح استدلاله بعد في بعض ألفاظه "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10350454ما من مولود إلا يولد على هذه الملة " .
وأما قول
أحمد في مواضع أخر : " يولد على ما فطر عليه من شقاوة ، أو سعادة " فلا تنافي بينه ، وبين قوله : إنها الدين ، فإن الله سبحانه قدر الشقاوة والسعادة وكتبهما ، وإنها تكون بالأسباب التي تحصل بها كفعل
[ ص: 952 ] الأبوين : فتهويدهما ، وتنصيرهما ، وتمجيسهما ، هو بما قدره الله تعالى ، والمولود يولد على الفطرة مسلما ، ويولد على أن هذه الفطرة السليمة قد يغيرها الأبوان كما قدر الله ذلك ، وكتبه ، كما مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10350455كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيهما من جدعاء " .
فبين أن البهيمة تولد سليمة ، ثم يجدعها الناس ، وذلك أيضا بقضاء الله ، وقدره ، فكذلك المولود يولد على الفطرة مسلما ، ثم يفسده أبواه ، وإنما قال
أحمد وغيره : ولد على ما فطر عليه من شقاوة وسعادة ؛ لأن
القدرية كانوا يحتجون بهذا الحديث على أن الكفر والمعاصي ليست بقدر الله ، بل بما فعله الناس ؛ لأن كل مولود يولد على الفطرة ، وكفره بعد ذلك من الناس ، ولهذا لما قيل
لمالك : إن
القدرية يحتجون علينا بأول الحديث .
قال : احتجوا عليهم بآخره ، وهو قوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10343270الله أعلم بما كانوا عاملين " فبين الأئمة أنه لا حجة فيه
للقدرية ، فإنه لم يقل : إن الأبوين خلقا تهويده وتنصيره ،
والقدرية لا تقول ذلك بل عندهم أنه تهود وتنصر باختياره ، ولكن كان الأبوان سببا في حصول ذلك بالتعليم ، والتلقين ، وهذا حق لا يقتضي نفي القدر السابق من العلم ، والكتاب ، والمشيئة ، بل ذلك مضاف إلى الله تعالى علما ، وكتابة ، ومشيئة ، وإلى الأبوين تسببا ، وتعليما ، وتلقينا ، وإلى الشيطان تزيينا ، ووسوسة ، وإلى العبد رضا ، واختيارا ، ومحبة .
ولا ينافي هذا قوله في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنهما - إن
nindex.php?page=treesubj&link=30452الغلام [ ص: 953 ] الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا " ، فإن معناه أنه قضي عليه وقدر في أم الكتاب أنه يكون كافرا ، فهي حال مقدرة كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=29فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها ) ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=112وبشرناه بإسحاق نبيا ) ، ونظائر ذلك ، وليس المراد : أن كفره كان موجودا بالفعل معه حتى طبع ، كما يقال : ولد ملكا ، وولد عالما ، وولد جبارا ومن ظن أن " الطبع " المذكور في الحديث هو " الطبع " في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=108طبع الله على قلوبهم ) ، فقد غلط غلطا ظاهرا ، فإن ذلك لا يقال فيه : طبع يوم طبع فإن الطبع على القلب إنما يوجد بعد كفره .
179 - فَصْلٌ
[ فِي مَعْنَى الْفِطْرَةِ ] .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً مِنْكُمْ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28644الْفِطْرَةَ الْأُولَى هِيَ فِطْرَةُ الْإِسْلَامِ ،
وَأَحْمَدُ قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْفِطْرَةَ هِيَ مَا فُطِرَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّقَاوَةِ ، وَالسَّعَادَةِ ، فَقَالَ فِي رِوَايَةِ
الْحَسَنِ بْنِ ثَوَابٍ :
nindex.php?page=treesubj&link=29619كُلُّ مَوْلُودٍ مِنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْفِطْرَةِ ، يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا مِنَ الشَّقَاوَةِ ، وَالسَّعَادَةِ الَّتِي سَبَقَتْ فِي الْكِتَابِ ، ارْجِعْ فِي ذَلِكَ إِلَى الْأَصْلِ هَذَا مَعْنَاهُ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ
حَنْبَلٍ ،
وَأَبِي الْحَارِثِ ،
وَالْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ : الْفِطْرَةُ الَّتِي فُطِرَ
[ ص: 945 ] الْعِبَادُ عَلَيْهَا مِنَ
[ الشَّقَاوَةِ ] ، وَالسَّعَادَةِ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ
عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ ، وَقَدْ سَأَلَهُ عَنِ الْحَدِيثِ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10343914كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ " ، قَالَ : عَلَى السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ عَلَى مَا خُلِقَ .
وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ : قُلْتُ
لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10343914كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ " مَا تَفْسِيرُهَا ؟ قَالَ : هِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَيْهَا شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ، وَإِذَا كَانَ هَذَا نَصَّهُ فِي الْفِطْرَةِ ، فَكَيْفَ يَكْتُمُ مَعَ مَذْهَبِهِ فِي الْأَطْفَالِ أَنَّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ بِمَوْتِ آبَائِهِمْ ؟
قِيلَ : هَذَا مَوْضِعٌ قَدِ اضْطَرَبَتْ فِيهِ الْأَقْدَامُ ، وَطَالَ فِيهِ النِّزَاعُ ، وَالْخِصَامُ ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ فِيهِ بَعْضَ مَا انْتَهَى إِلَيْنَا مِنْ كَلَامِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12074أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ " غَرِيبِ الْحَدِيثِ " الَّذِي هُوَ لِمَا بَعْدَهُ مِنْ كُتُبِ الْغَرِيبِ إِمَامٌ : " سَأَلْتُ
مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ عَنْ تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ ، فَقَالَ : كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْفَرَائِضُ ، وَقَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ الْمُسْلِمُونَ بِالْجِهَادِ " .
قَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ : " فَأَمَّا
nindex.php?page=showalam&ids=16418عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ
[ ص: 946 ] الْآخَرِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10343273أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ ، فَقَالَ : " اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ " .
قَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ : فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ يُولَدُونَ عَلَى مَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُفْرٍ ، أَوْ إِسْلَامٍ .
قَالَ
ابْنُ قُتَيْبَةَ : حَكَى
أَبُو عُبَيْدٍ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ ، وَلَمْ يُحِلَّ عَلَى نَفْسِهِ فِي هَذَا قَوْلًا وَلَا اخْتِيَارًا .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=17032مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ " الرَّدُّ عَلَى
ابْنِ قُتَيْبَةَ " : فَيُقَالُ لَهُ : وَمَا عَلَى رَجُلٍ حَكَى اخْتِلَافًا فِي شَيْءٍ ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ الصَّوَابُ فَأَمْسَكَ عَنِ التَّقَدُّمِ عَلَى مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ صَوَابُهُ ، مَا عَلَى هَذَا مِنْ سَبِيلٍ ، بَلْ هُوَ مَحْمُودٌ عَلَى التَّوَقُّفِ عَمَّا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ عَسَى أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ ، بَلِ الْعَيْبُ الْمَذْمُومُ مَنِ اجْتَرَأَ
[ ص: 947 ] عَلَى الْقَوْلِ فِيمَا لَا عِلْمَ لَهُ ، فَفَسَّرَ حَدِيثَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَفْسِيرًا خَالَفَ فِيهِ حُكْمَ الْكِتَابِ ، وَخَرَجَ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَتَرَكَ الْقِيَاسَ وَالنَّظَرَ ، فَقَالَ قَوْلًا لَا يَصْلُحُ فِي خَبَرٍ ، وَلَا يَقُومُ عَلَى نَظَرٍ .
وَهُوَ هَذَا الْعَائِبُ عَلَى
أَبِي عُبَيْدٍ : زَعَمَ أَنَّ الْفِطْرَةَ الَّتِي أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَيْهَا : هِيَ خَلْقُهُ فِي كُلِّ مَوْلُودٍ مَعْرِفَةً بِرَبِّهِ ، وَزَعَمَ أَنَّهُ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=172وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) الْآيَةَ ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=17032مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=78وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ) ، فَزَعَمَ هَذَا أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أَعْظَمَ الْأَشْيَاءِ ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى ، فَمَنْ أَعْظَمُ جُرْمًا ، وَأَشَدُّ مُخَالَفَةً لِلْكِتَابِ مَنْ سَمِعَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=78وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ) ، فَزَعَمَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَعْظَمَ الْأَشْيَاءِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُعَانِدُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَالْجَاهِلُ بِالْكِتَابِ .
قُلْتُ : إِنْ أَرَادَ
أَبُو مُحَمَّدٍ " الْمَعْرِفَةَ " الْمَعْرِفَةَ الثَّانِيَةَ بِالْفِعْلِ الَّتِي هِيَ لِلْكِبَارِ ، فَإِنْكَارُ
أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ مُتَوَجِّهٌ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ مُهَيَّأٌ لِلْمَعْرِفَةِ ، وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ فِيهِ بِالْقُوَّةِ كَمَا هُوَ مُهَيَّأٌ لِلْفِعْلِ وَالنُّطْقِ لَمْ يَلْزَمْهُ مَا ذَكَرَهُ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ [ ص: 948 ] كَمَا إِذَا قِيلَ : يُولَدُ نَاطِقًا عَاقِلًا بِحَيْثُ إِذَا عَقَلَ عَرَفَ رَبَّهُ بِتِلْكَ الْقُوَّةِ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِيهِ دُونَ الْجَمَادَاتِ ، بِحَيْثُ لَوْ خُلِّيَ وَمَا فُطِرَ عَلَيْهِ وَلَمْ تُغَيَّرْ فِطْرَتُهُ لَكَانَ عَارِفًا بِرَبِّهِ ، مُوَحِّدًا لَهُ ، مُحِبًّا لَهُ .
فَإِنْ قِيلَ :
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَمْ يُنْكِرْ هَذَا ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفِطْرَةِ الْمِيثَاقَ الْأَوَّلَ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ حِينَ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=172أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) ، فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ ، وَالْإِقْرَارَ غَيْرُ حَاصِلَيْنِ مِنَ الطِّفْلِ ، فَصَحَّ إِنْكَارُ
أَبِي عَبْدِ اللَّهِ .
قِيلَ :
ابْنُ قُتَيْبَةَ إِنَّمَا قَالَ : الْفِطْرَةُ هِيَ خَلْقُهُ فِي كُلِّ مَوْلُودٍ مَعْرِفَةً بِرَبِّهِ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=172وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) الْآيَةَ ، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ الْمَعْرِفَةُ حَاصِلَةً فِي الْمَوْلُودِ بِالْفِعْلِ ، وَتَشْبِيهُهُ الْحَدِيثَ بِالْآيَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِيثَاقَ الَّذِي ذَكَرَ فِي الْآيَةِ هُوَ الْمَعْرِفَةُ الْفِعْلِيَّةُ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ إِلَى الدُّنْيَا أَحْيَاءً نَاطِقِينَ ، وَإِنْ كَانَ هَذَا قَدْ قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فَلَا يَلْزَمُ
ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنْ يَخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ، بَلْ هَذَا مِنْ حُسْنِ فَهْمِهِ فِي الْقُرْآنِ ، وَالسُّنَّةِ : إِذْ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى الْآيَةِ ، وَفَسَّرَ كُلًّا مِنْهُمَا بِالْآخَرِ . وَقَدْ قَالَ هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ ، وَأَحْسَنُ مَا فُسِّرَتْ بِهِ الْآيَةُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10343914كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ : فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ " فَالْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ ، وَالْإِشْهَادُ الَّذِي أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، وَالْإِقْرَارُ الَّذِي أَقَرُّوا بِهِ هُوَ الْفِطْرَةُ الَّتِي فُطِرُوا عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ ، وَهُوَ لَا يَحْتَجُّ
[ ص: 949 ] عَلَيْهِمْ بِمَا لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا يَذْكُرُهُ ، بَلْ بِمَا يُشْرَكُونَ فِي مَعْرِفَتِهِ ، وَالْإِقْرَارِ بِهِ .
وَأَيْضًا ، فَإِنَّهُ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=172وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) ، وَلَمْ يَقُلْ " مِنْ
آدَمَ " ، ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=172مِنْ ظُهُورِهِمْ ) ، وَلَمْ يَقُلْ : " مِنْ ظَهْرِهِمْ " ، ثُمَّ قَالَ : ( ذُرِّيَّتَهُمْ ) ، وَلَمْ يَقُلْ : ( ذُرِّيَّتَهُ ) ، ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=172وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) وَهَذَا يَقْتَضِي إِقْرَارَهُمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ إِقْرَارًا تَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ ، وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ الْإِقْرَارُ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ عَلَيْهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=10قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ ) ، وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=87وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) ، : (
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=25وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) ، : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=84قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=85سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ) ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ : يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِمَا فُطِرُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِقْرَارِ بِرَبِّهِمْ وَفَاطِرِهِمْ ، وَيَدْعُوهُمْ بِهَذَا الْإِقْرَارِ إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ ، وَأَلَّا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، هَذِهِ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ .
وَمِنْ ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي " الْأَعْرَافِ " وَهِيَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=172وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ) الْآيَةَ ، وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِهَا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=172أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=173أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ )
[ ص: 950 ] فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا أَقَرُّوا بِهِ مِنْ رُبُوبِيَّتِهِ عَلَى بُطْلَانِ شِرْكِهِمْ وَعِبَادَةِ غَيْرِهِ ، وَأَلَّا يَعْتَذِرُوا ، إِمَّا بِالْغَفْلَةِ عَنِ الْحَقِّ ، وَإِمَّا بِالتَّقْلِيدِ فِي الْبَاطِلِ ، فَإِنَّ الضَّلَالَ لَهُ سَبَبَانِ : إِمَّا غَفْلَةٌ عَنِ الْحَقِّ ، وَإِمَّا تَقْلِيدُ أَهْلِ الضَّلَالِ ، فَيُطَابِقُ الْحَدِيثَ مَعَ الْآيَةِ ، وَيُبَيِّنُ مَعْنَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ ، فَلَمْ يَقَعِ
ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي مُعَانَدَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَلَا جَهِلَ الْكِتَابَ ، وَلَا خَرَجَ عَنِ الْمَعْقُولِ ، وَلَكِنْ لَمَّا ظَنَّ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَخْرَجَهُمْ أَحْيَاءً نَاطِقِينَ مِنْ صُلْبِ
آدَمَ فِي آنٍ وَاحِدٍ ، ثُمَّ خَاطَبَهُمْ ، وَكَلَّمَهُمْ وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ ، ثُمَّ رَدَّهُمْ فِي ظَهْرِهِ ، وَأَنَّ
أَبَا مُحَمَّدٍ فَسَّرَ الْفِطْرَةَ بِهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ أَلْزَمَهُ مَا أَلْزَمَهُ .
ثُمَّ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=17032مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : وَاحْتَجَّ - يَعْنِي
ابْنَ قُتَيْبَةَ - بِقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=1الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ ) خَالِقِهَا ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ فِي سُورَةِ يس : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=22وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ) ، أَيْ خَلَقَنِي ، وَبِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=30فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ) ، قَالَ : وَكَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُسْرِعُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْفِطْرَةَ خِلْقَةٌ .
[ ص: 951 ] قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=17032مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : فَيُقَالُ لَهُ : لَسْنَا نُخَالِفُكَ فِي أَنَّ الْفِطْرَةَ خِلْقَةٌ فِي اللُّغَةِ وَأَنَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ خَالِقُهُمَا ، وَلَكِنْ مَا
[ الدَّلِيلُ ] عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْخِلْقَةَ هِيَ مَعْرِفَةٌ ؟ هَلْ عِنْدَكَ مِنْ دَلِيلٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ أَنَّ الْخِلْقَةَ هِيَ الْمَعْرِفَةُ ؟ فَإِنْ أَتَيْتَ بِحُجَّةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ أَنَّ الْخِلْقَةَ هِيَ الْمَعْرِفَةُ ، وَإِلَّا فَأَنْتَ مُبْطِلٌ فِي دَعْوَاكَ ، وَقَائِلٌ مَا لَا عِلْمَ لَكَ بِهِ .
قُلْتُ : لَمْ يُرِدِ
ابْنُ قُتَيْبَةَ وَلَا مَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ : " إِنَّ الْفِطْرَةَ خِلْقَةٌ " أَنَّهَا مَعْرِفَةٌ حَاصِلَةٌ بِالْفِعْلِ مَعَ الْمَوْلُودِ حِينَ يُولَدُ ، فَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ ، وَقَدْ قَالَ
أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ
الْمَيْمُونِيِّ : الْفِطْرَةُ الْأُولَى الَّتِي فُطِرَ النَّاسُ عَلَيْهَا ، فَقَالَ لَهُ
الْمَيْمُونِيُّ : الْفِطْرَةُ الدِّينُ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
وَقَدْ نَصَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا مَاتَ أَبَوَاهُ ، أَوْ أَحَدُهُمَا حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ، وَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10343914كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ " فَفَسَّرَ الْحَدِيثَ بِأَنَّهُ يُولَدُ عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الْحَدِيثِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْنَاهُ عِنْدَهُ لَمَا صَحَّ اسْتِدْلَالُهُ بَعْدُ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10350454مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ " .
وَأَمَّا قَوْلُ
أَحْمَدَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ : " يُولَدُ عَلَى مَا فُطِرَ عَلَيْهِ مِنْ شَقَاوَةٍ ، أَوْ سَعَادَةٍ " فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ : إِنَّهَا الدِّينُ ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدَّرَ الشَّقَاوَةَ وَالسَّعَادَةَ وَكَتَبَهُمَا ، وَإِنَّهَا تَكُونُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَا كَفِعْلِ
[ ص: 952 ] الْأَبَوَيْنِ : فَتَهْوِيدُهُمَا ، وَتَنْصِيرُهُمَا ، وَتَمْجِيسُهُمَا ، هُوَ بِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَالْمَوْلُودُ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ مُسْلِمًا ، وَيُولَدُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْفِطْرَةَ السَّلِيمَةَ قَدْ يُغَيِّرُهَا الْأَبَوَانِ كَمَا قَدَّرَ اللَّهُ ذَلِكَ ، وَكَتَبَهُ ، كَمَا مَثَّلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10350455كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهِمَا مِنْ جَدْعَاءَ " .
فَبَيَّنَ أَنَّ الْبَهِيمَةَ تُولَدُ سَلِيمَةً ، ثُمَّ يَجْدَعُهَا النَّاسُ ، وَذَلِكَ أَيْضًا بِقَضَاءِ اللَّهِ ، وَقَدَرِهِ ، فَكَذَلِكَ الْمَوْلُودُ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ مُسْلِمًا ، ثُمَّ يُفْسِدُهُ أَبَوَاهُ ، وَإِنَّمَا قَالَ
أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ : وُلِدَ عَلَى مَا فُطِرَ عَلَيْهِ مِنْ شَقَاوَةٍ وَسَعَادَةٍ ؛ لِأَنَّ
الْقَدَرِيَّةَ كَانُوا يَحْتَجُّونَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ لَيْسَتْ بِقَدَرِ اللَّهِ ، بَلْ بِمَا فَعَلَهُ النَّاسُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، وَكُفْرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ النَّاسِ ، وَلِهَذَا لَمَّا قِيلَ
لِمَالِكٍ : إِنَّ
الْقَدَرِيَّةَ يَحْتَجُّونَ عَلَيْنَا بِأَوَّلِ الْحَدِيثِ .
قَالَ : احْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِآخِرِهِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10343270اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ " فَبَيَّنَ الْأَئِمَّةُ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ
لِلْقَدَرِيَّةِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ : إِنَّ الْأَبَوَيْنِ خَلَقَا تَهْوِيدَهُ وَتَنْصِيرَهُ ،
وَالْقَدَرِيَّةُ لَا تَقُولُ ذَلِكَ بَلْ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ تَهَوَّدَ وَتَنَصَّرَ بِاخْتِيَارِهِ ، وَلَكِنْ كَانَ الْأَبَوَانِ سَبَبًا فِي حُصُولِ ذَلِكَ بِالتَّعْلِيمِ ، وَالتَّلْقِينِ ، وَهَذَا حَقٌّ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْقَدَرِ السَّابِقِ مِنَ الْعِلْمِ ، وَالْكِتَابِ ، وَالْمَشِيئَةِ ، بَلْ ذَلِكَ مُضَافٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عِلْمًا ، وَكِتَابَةً ، وَمَشِيئَةً ، وَإِلَى الْأَبَوَيْنِ تَسَبُّبًا ، وَتَعْلِيمًا ، وَتَلْقِيَنًا ، وَإِلَى الشَّيْطَانِ تَزْيِينًا ، وَوَسْوَسَةً ، وَإِلَى الْعَبْدِ رِضًا ، وَاخْتِيَارًا ، وَمَحَبَّةً .
وَلَا يُنَافِي هَذَا قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30452الْغُلَامَ [ ص: 953 ] الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كَافِرًا ، وَلَوْ عَاشَ لَأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا " ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ قُضِيَ عَلَيْهِ وَقُدِّرَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ أَنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا ، فَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=29فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ) ، وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=112وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا ) ، وَنَظَائِرِ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ : أَنَّ كُفْرَهُ كَانَ مَوْجُودًا بِالْفِعْلِ مَعَهُ حَتَّى طُبِعَ ، كَمَا يُقَالُ : وُلِدَ مَلِكًا ، وَوُلِدَ عَالِمًا ، وَوُلِدَ جَبَّارًا وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ " الطَّبْعَ " الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ هُوَ " الطَّبْعُ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=108طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ) ، فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا ظَاهِرًا ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُقَالُ فِيهِ : طُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ فَإِنَّ الطَّبْعَ عَلَى الْقَلْبِ إِنَّمَا يُوجَدُ بَعْدَ كُفْرِهِ .