[ ص: 5 ] فصل
قال الحاكي عنهم : فقلت فإنهم ينكرون علينا قولنا :
nindex.php?page=treesubj&link=29434إن الله - تعالى - جوهر قالوا إننا نسمع عن هؤلاء القوم أنهم ذوو فضل وأدب ومعرفة ، ومن هذا صورته ، وقد قرأ شيئا من كتب
الفلاسفة والمنطق فما حقهم ينكرون هذا علينا وذلك أنه ليس
[ ص: 6 ] في الوجود شيء إلا وهو إما جوهر وإما عرض ؛ لأن أي أمر نظرناه وجدناه إما قائما بنفسه غير مفتقر في وجوده إلى غيره ، وهو الجوهر ، وإما مفتقر في وجوده إلى غيره لا قوام له بنفسه ، وهو العرض ولا يمكن أن يكون لهذين القسمين قسم ثالث . فأشرف هذين القسمين القائم بذاته الغير مفتقر في وجوده إلى غيره . وهو الجوهر .
ولما كان الباري - تقدست أسماؤه - أشرف الموجودات ؛ إذ هو سبب سائرها ، أوجب أن يكون أشرف الأمور وأعلاها الجوهر ؛ ولهذا قلنا إنه جوهر لا كالجواهر المخلوقة ، كما نقول إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة ، وإلا لزم أن يكون قوامه بغيره ومفتقر في وجوده إلى غيره ، وهذا من القبيح أن يقال على الله - تعالى - فقلت
[ ص: 7 ] لهم إنهم يقولون إنا إنما نمتنع من تسميه جوهرا ؛ لأن الجوهر ما قبل عرضا وما شغل الحيز ولهذا ما يطلق عليه القول بأنه - تعالى - جوهر . قالوا : إن الذي يقبل عرضا ويشغل حيزا هو الجوهر الكثيف ، فأما الجوهر اللطيف فما يقبل عرضا ولا يشغل حيزا ؛ مثل جوهر النفس ، وجوهر العقل ، وجوهر الضوء ، وما يجري هذا المجرى من الجواهر اللطيفة المخلوقة .
فإذا كانت الجواهر اللطيفة المخلوقة لا تقبل عرضا ، ولا تشغل حيزا فيكون خالق الجواهر اللطائف والكثائف ، ومركب اللطائف بالكثائف يقبل عرضا ويشغل حيزا ؟ كلا .
والجواب من وجوه :
أحدها : أن يقال : أما تسمية الباري جوهرا . فهو من أهون ما ينكر على
النصارى ؛ ولهذا كان من الناس من ينكره من جهة الشرع - فقط - أو اللغة ، ومنهم من ينكره من جهة العقل أيضا ، ومنهم من يراه نزاعا لفظيا . وطائفة من المسلمين يسمونه جوهرا وجسما أيضا . وذلك أن المسلمين في أسماء الله - تعالى - على طريقتين ، فكثير منهم يقول : إن أسماءه سمعية شرعية ، فلا يسمى إلا بالأسماء التي جاءت بها الشريعة ، فإن هذه عبادة ، والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع .
ومنهم من يقول : ما صح معناه في اللغة ، وكان معناه ثابتا له ،
[ ص: 8 ] لم يحرم تسميته به ، فإن الشارع لم يحرم علينا ذلك ، فيكون عفوا . والصواب القول الثالث ؛ وهو أن يفرق بين أن يدعى بالأسماء أو يخبر بها عنه . فإذا دعي لم يدع إلا بالأسماء الحسنى كما قال - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=180ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه
وأما الإخبار عنه فهو بحسب الحاجة ؛ فإذا احتيج في تفهيم الغير المراد إلى أن يترجم أسماؤه بغير العربية ، أو يعبر عنه باسم له معنى صحيح ، لم يكن ذلك محرما .
وأما الذين منعوه من جهة العقل فكثير : منهم من يقولون : إن الجوهر ما شغل الحيز ، وحمل الأعراض والله - سبحانه وتعالى - ليس كذلك ، وهذا قول من نفى ذلك من أهل الكلام . ومنهم من يقول : الجوهر ما إذا وجد كان وجوده لا في موضوع ، وهذا إنما يكون فيما وجوده زائد على ذاته ، وواجب الوجود وجوده عين ذاته ، فلا يكون
[ ص: 9 ] جوهرا . وهذا قول
nindex.php?page=showalam&ids=13251ابن سينا وأمثاله من متأخري المتفلسفة .
وأما قدماء
الفلاسفة ؛
كأرسطو وأمثاله ؛ فكانوا يسمونه جوهرا ؛ وعنهم أخذت
النصارى هذه التسمية ؛ فإن
أرسطو كان قبل
المسيح [ ص: 10 ] بأكثر من ثلاثمائة سنة ولهذا قال هؤلاء في كتابهم نعجب ممن ينكر ذلك وهو قد قرأ شيئا من كتب
الفلاسفة والمنطق .
وأما اللغة : فإن لفظ الجوهر ليس من العربية العرباء ؛ ولهذا لا يعرف في كلام العرب المحض ، وإنما هو معرب كما ذكر ذلك
الجوهري وغيره ، قال
الجوهري : الجوهر معرب ، الواحدة
[ ص: 11 ] جوهرة ، فهو من العربية المعربة ، لا من العربية العرباء ، كلفظ سجيل ، وإستبرق وأمثال ذلك من الألفاظ المعربة ، وهذا اللفظ ليس موجودا في القرآن . ومع هذا فلما عرب كان معناه في اللغة هو الجوهر المعروف . وتسمية القائم بنفسه أو الشاغل للحيز جوهرا ، فهو أمر اصطلاحي ، ليس هو من الأسماء اللغوية ولا العرفية العامة ، ولا الأسماء الشرعية .
وقد قيل : إنه مأخوذ من كلام الأوائل ،
كاليونان وغيرهم ، فإنه
[ ص: 12 ] يوجد في كلامهم تسمية القائم بنفسه جوهرا . وقد قيل : سموه بذلك ؛ لأن جوهر الشيء أصله والقائم بنفسه هو الأصل . وقد يسمون العرض القائم بغيره جوهرا . وقيل : لأن لفظ الجوهر ، فوعل ، من الجهر ؛ وهو الظهور والوضوح ، والقائم بنفسه يظهر ويعرف قبل أن يعرف ما قام به من الأعراض .
والناس متفقون على إثبات الأعيان القائمة بنفسها التي تسمى جواهر أو أجساما ، وتنازعوا في ثبوت الأعراض القائمة بها ، والنزاع عند محققيهم لفظي ، فإن عاقلا لا ينازع أن الجسم يتحرك بعد سكونه . لكن منهم من يقول : حركته ليست زائدة على ذاته . ومنهم من يقول : هي زائدة على ذاته . وهو نظير نزاعهم في الصفات : هل هي زائدة على الذات أو ليست زائدة ؟ .
والتحقيق أن مسمى الإنسان إذا أطلق دخل فيه صفاته ، وإذا ميز بين هذا وهذا قيل : الذات والصفات . ومن الناس من يخص بلفظ العرض ما لم يكن من الصفات لازما للموصوف ، والصفات اللازمة يسميها صفات ذاتية جوهرية . ومنهم من يخص بالعرض
[ ص: 13 ] ما لا يبقى عنده زمانين ، ويقول : صفات المخلوق تسمى أعراضا ؛ لأنها لا تقبل زمانين بخلاف صفات الله ، فإنها عنده باقية فلا تسمى أعراضا .
ومن نظار المسلمين من يسمي صفات كل موصوف أعراضا ، وإذا كان كذلك فلا يدخل في أسماء الله التي تذكر في أصول الإيمان التي يجب اعتقادها من الأسماء ما هو اصطلاح طائفة من الناس ، مع أنه يوهم معنى باطلا . وهذا الوضع مما اضطرب فيه - مع
النصارى - كثير من الناس .
منهم من يجعل الصفات أعيانا قائمة بنفسها وجواهر قائمة بنفسها .
ومنهم من يجعل الأعيان القائمة بنفسها صفات ، والصفات لا تقوم بأنفسها بل لا بد لها من موصوف تقوم به .
والأولون نوعان :
منهم من نفى الصفات ، وقال : لو أثبتنا له حياة وعلما وقدرة
[ ص: 14 ] لزم أن تكون هذه آلهة فإن القدم أخص وصفه ، فلو أثبتنا قديما ليست هي الذات ، لزم أن يشارك الذات في أخص وصفها ، فتكون ذاتا أخرى قائمة بنفسها . وهذه طريقة كثير من نفاة الصفات من مبتدعة المسلمين ،
واليهود والنصارى احتجوا على نفي الصفات بأنا لو أثبتناها لزم أن تكون آلهة .
وقال من قال من المنتسبين إلى الإسلام : أنا لو أثبتنا الصفات لقلنا بقول
النصارى ، حيث أثبتوا لله الأقانيم ، وحجة هؤلاء قائمة على
النصارى ، وهم النوع الثالث ، فإنهم أثبتوا لله صفات جعلوها جوهرا
[ ص: 15 ] قائما بنفسه ، وقالوا : إن الله موجود حي ناطق ، ثم قالوا حياته جوهر قائم بنفسه ، ونطقه - وهو الكلمة - جوهر قائم بنفسه وقالوا في هذا : إنه إله من إله ، وهذا إله من إله ، فأثبتوا صفات لله وجعلوها جواهر قائمة بنفسها ، ثم قالوا : الجميع جوهر ، فكان في كلامهم أمور كثيرة من الباطل المتناقض . منهم من جعل الصفات جوهرا . ومنهم من جعل الجواهر المتعددة جوهرا واحدا .
والذين قالوا من نفاة الصفات
المعتزلة والجهمية : إن من أثبت الصفات فقد قال بقول
النصارى ، هو متوجه على من جعل الصفات جواهر . وهؤلاء هم
النصارى يزعمون أن الصفات جواهر آلهة ، ثم قال هؤلاء : ولا إله إلا الله ، فلا صفة له . وقالت
النصارى : بل الأب جوهر إله ، والابن جوهر إله ، وروح القدس جوهر إله ، ثم قالوا : والجميع إله واحد . ونفس تصور هذه الأقوال - التصور التام - يوجب العلم بفسادها . وأما الرسل وأتباعهم فنطقوا أن لله علما وقدرة وغير ذلك من الصفات ، وثبتوا أن الإله إله واحد . فإذا قال القائل : عبدت الله ودعوت الله ؛ فإنما دعا وعبد إلها واحدا ؛ وهو ذات متصفة بصفات الكمال ، لم يعبد ذاتا لا حياة لها ولا علم ولا قدرة ، ولا عبد ثلاثة آلهة ولا ثلاثة جواهر ، بل نفس اسم الله يتضمن ذاته المقدسة المتصفة
[ ص: 16 ] بصفاته - سبحانه - وليست صفاته خارجة عن مسمى اسمه ، ولا زائدة على مسمى اسمه ، بل إذا قدر ذات مجردة عن الصفات ، فالصفات زائدة على هذه الذات المقدرة في الذهن المجردة عن الصفات ليست الصفات زائدة عن الذات المتصفة بالصفات ، فإن تلك لا تحقق إلا بصفاتها فتقديرها - مجردة عن صفاتها - تقدير ممتنع .
وقد تنازع المثبتة : هل يقال الصفات عين الذات ، أم يقال ليست عين الذات ؟ أم يقال : لا يقال هن غير الذات ، ولا يقال ليست غير الذات ؟ وتنازعوا في مسمى الغيرين : هل هما ما جاز مفارقة أحدهما الآخر مطلقا ، أو ما جاز مفارقته بوجود أو زمان أو مكان ، أو هما ما جاز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر ؟ وغاية ذلك منازعات لفظية .
وكثير منهم فرق في الصفات اللازمة بين بعضها وبعض ؛ فجعل بعضها زائدا على الذات وبعضها ليس بزائد على الذات ، وكان الفرق بحسب ما يتصوره ، لا بحسب ما الأمر عليه في نفسه . فإذا
[ ص: 17 ] أمكنهم تصور الذات بدون صفة قالوا : هذه زائدة ، وإلا قالوا ليست زائدة . وهذا يقتضي أنها زائدة على ما تصوروه هم من الذات ، لا أنه في الخارج ذات مجردة عن تلك الصفة ، وصفة زائدة عليها ، بل ليس إلا الذات المتصفة بتلك الصفات .
ولكن يجب الفرق بين أن يقال : إن الصفات غير الذات ، وبين أن يقال : إنها غير الله ؛ فإن اسم ( الله ) متناول لذاته المتصفة بصفاته . فإذا قال القائل : دعوت الله وعبدت الله ؛ فلم يدع ذاتا مجردة ولا صفات مجردة ، بل دعا الذات المتصفة بصفاتها فاسمه - تعالى - يتناول ذلك . فليست صفاته خارجة عن مسمى اسمه ولا زائدة على ذلك ، وإن قيل إنها زائدة على الذات المجردة . ومن ظن أنها زائدة على الذات المتصفة بصفاتها التي تدخل صفاتها في مسماها ، فقد غلط ولكن في الأذهان والألسنة زلق في هذا الموضع كثيرا .
فإذا قيل : الصفات مغايرة للذات ، لم يكن في هذا من المحذور ما في قولنا : إن صفات الله غير الله ؛ فإن اسم الله يتناول صفاته .
فإذا قيل : إنها غيره ؛ فهم من ذلك أنها مباينة له وهذا باطل . ولهذا كان النفاة إذا ناظروا أئمة المسلمين ، كما ناظروا الإمام
[ ص: 18 ] nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل في محنته المشهورة فقالوا له : " ما تقول في القرآن وكلام الله ، أهو الله أم غير الله ؟ " عارضهم بالعلم ؛ وقال لهم : " ما تقولون في علم الله ، أهو الله أم غير الله ؟ " . وأجاب - أيضا -
[ ص: 19 ] بأن الرسل لم تنطق بواحد من الأمرين ، فلا حجة لهم في كلام الله ورسوله ، فإن الله لم يقل لكلامه : هو أنا ، ولا قال : إنه غيري ! حتى يقول القائل : إذا كان قد جعل كلامه غيره وسواه فقد أخبر أنه خالق لكل ما سواه ! .
فإن كان الاحتجاج بالسمع ؛ فلا حجة فيه ، وإن كان الاحتجاج بالعقل ؛ فالمرجع في ذلك إلى المعاني لا إلى العبارات . فإن أراد المريد بقوله : هل كلامه وعلمه غيره ، أنه مباين له . فليس هو غيرا له بهذا الاعتبار . وإن أراد بذلك أن نفس الكلام والعلم ليس هو العالم المتكلم ؛ فهو غير له بهذا الاعتبار . وإذا كان اللفظ مجملا لم يجز إطلاقه على الوجه الذي يفهم المعنى الفاسد . وأما الذين جعلوا الأعيان القائمة بأنفسها صفات ، فهم هؤلاء المتفلسفة النفاة للصفات ومن أشبههم ؛ فإنهم قالوا : إن رب العالمين عقل وعاقل ومعقول .
ولفظ ( العقل ) عندهم وإن كانوا يقولون : هو جوهر قائم بنفسه ، فقد صرحوا أيضا بأنه - نفسه - علمه ، حتى صرحوا بأن رب العالمين علم ، كما صرح بذلك
nindex.php?page=showalam&ids=13171ابن رشد وغيره ، ونقلوه عن
أرسطو ،
[ ص: 20 ] وأن العقول العشرة كل منها علم ، فهو علم وعالم ومعلوم ، بل قالوا : عقل وعاقل ومعقول ، وعاشق ومعشوق وعشق ، ولذيذ وملتذ ولذة ، فجعلوه - نفسه - لذة وعقلا وعشقا ، وجعلوا ذلك هو العالم العاشق الملتذ ، وجعلوا نفس العلم نفس العشق ونفس اللذة ؛ فجعلوه - نفسه - صفات ، وجعلوه ذاتا قائمة بنفسها ، وجعلوا كل صفة هي الأخرى ، وهذا مما يعلم - بصريح العقل - بطلانه .
ومنهم من لا يصرح بأنه - نفسه - علم ، فإنه يقول : هو عاقل ومعقول وعقل ؛ يقول : إنه يعلم - نفسه - بلا علم علمه ، بل هو العالم ، وهو المعلوم وهو العلم . وحقيقة كلامهم تعود إلى قول أولئك ؛ فإنهم إذا قالوا : إن العلم الذي يعلم به ذاته هو العالم وهو المعلوم ؛ فقد جعلوا نفس العلم نفس العالم ونفس العلم نفس المعلوم وهي حقيقة قول أولئك ، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع .
[ ص: 20 ] الوجه الثاني : أن يقال لهم : أنتم تقولون إنكم متبعون للكتب الإلهية ، وإذا كان كذلك لم ينبغ لكم في شريعة إيمانكم من الأسماء إلا ما جاءت به الأنبياء عليهم السلام .
والأنبياء لم يسم الله أحد منهم جوهرا ، وإنما سماه بذلك
أرسطو وأمثاله ، وهؤلاء كانوا مشركين يعبدون الأصنام ولم يكونوا يعرفون الله المعرفة الصحيحة ، ولا يقولون : إنه خالق السماوات والأرض ، ولا إنه بكل شيء عليم ، ولا على كل شيء قدير ، وإنما كانوا يعبدون الكواكب العلوية ، والأصنام السفلية ويعبدون الشياطين ويؤمنون بالجبت والطاغوت ، وإنما صاروا مؤمنين لما دخل إليهم دين المسيح ، صلوات الله عليه وسلامه بعد
الإسكندر المقدوني [ ص: 22 ] - صاحب
أرسطو - بنحو ثلاثمائة سنة . ويقال : إنه آخر ملوكهم كان (
بطليموس ) وكانوا يسمون الملك من ملوكهم ( بطليموس ) كما يسمون
القبط ملكها ( فرعون )
والحبشة ملكها ( النجاشي )
والفرس ( كسرى ) ونحو ذلك . وحينئذ فعدولكم عن طريقة الأنبياء والمرسلين . إلى طريقة الكفار والمشركين المعطلين من الضلال المبين .
وفي كتبهم : أن
بولص لما صار إلى ( أيثينية ) دار
الفلاسفة ، وفيها دار الأصنام ، وجد مكتوبا على باب دار العلماء : الإله الخفي
[ ص: 23 ] الذي لا يعرف هو الذي خلق العالم .
فكانوا لا يعرفون رب العالمين ، فكيف يعدل عن طريقة رسل الله وأنبيائه
كموسى ،
وداود ،
والمسيح ، إلى طريقة هؤلاء الكفار المشركين المعطلين ؟ ! .
ولكن
النصارى ركبوا دينا من دينين : من دين الأنبياء الموحدين ودين المشركين ، فصار في دينهم قسط مما جاءت به الأنبياء ، وقسط مما ابتدعوه من دين المشركين في أقوالهم وأفعالهم ، كما أحدثوا ألفاظ الأقانيم ، وهي ألفاظ لا توجد في كلام الأنبياء ، وكما أحدثوا الأصنام المرقومة بدل الأصنام المجسدة ، والصلاة إلى الشمس والقمر والكواكب ، بدل الصلاة لها ، والصيام في وقت الربيع ، ليجمعوا بين الدين الشرعي والأمر الطبيعي وغير ذلك .
الوجه الثالث : قولهم : إن الذي يشغل حيزا ويقبل عرضا هو الجوهر الكثيف ، فأما الجوهر اللطيف فما يقبل عرضا ولا يشغل حيزا ، مثل جوهر النفس وجوهر العقل وجوهر الضوء . فيقال : الكلام في
[ ص: 24 ] الجواهر . هل هي منقسمة إلى متحيز وغير متحيز أو كلها متحيزة ؟ متصل بالكلام على نفس الإنسان الناطقة .
فنقول إن المسلمين من أعظم الناس معرفة بوجود الملائكة والجن ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة ، وكذلك سلف الأمة وأئمتها يعرفون وجود النفس التي هي روح الإنسان التي تفارق بدنه حين الموت ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة ، وإن كان كثير من أهل الكتاب يزعم أنها عرض من
[ ص: 25 ] أعراض البدن ، أو جزء من أجزائه ، فهذا قول محدث في الإسلام لم يذهب إليه أحد من السلف والأئمة ، وإن كان محكيا عن أكثر المتكلمين ، فليس الذين قالوا هذا من سلف الأمة ولا أئمتها ، بل هم من أهل الكلام المحدث المذموم عند السلف . وأئمة الأمة وكثير من المتفلسفة الداخلين في أهل الملل يقولون : إن الذوات التي تسميها الأنبياء الملائكة هي التي تسميها المتفلسفة المشاءون عقولا ، أو عقولا ونفوسا ، وهذا غلط عظيم كما قد بسط في موضعه .
فإن العقول التي يثبتها هؤلاء المتفلسفة لا حقيقة لها عند الرسل وأتباعهم ، بل ولا حقيقة لها في المعقول الصريح ، بل حقيقة كلامهم أنها أعراض قائمة بنفسها . وقد صرحوا بأن واجب الوجود - نفسه - هو علم ، وجعلوا نفس العلم هو نفس العالم ، ونفس تصور هذا القول يكفي في العلم بفساده ، كما أن هؤلاء المتفلسفة
[ ص: 26 ] - أتباع
أرسطو - لا يعرفون الملائكة ، بل ولا الجن ، وإنما علمهم معرفة الأجسام الطبيعية ، وتكلموا في الإلهيات بكلام قليل نزر ؛ باطله أكثر من حقه ، كما قد بسط في موضع آخر .
وهؤلاء يزعمون أن العقل الأول أبدع ما دونه من العقول والأفلاك إلى أن ينتهي الأمر إلى العقل العاشر ، فهو مبدع ما تحت فلك القمر . وهذا كله من أعظم الكفر عند الرسل وأتباعهم أهل الملل . فإن مضمون هذا أن ملكا من الملائكة خلق كل ما تحت السماء ، وملكا فوقه خلق كل ما سوى الله - سبحانه - وهذا من أعظم الكفر في دين المرسلين وأهل الملل المسلمين
واليهود والنصارى . قال - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=26وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=27لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=28يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون
فأخبر أن الملائكة لا تسبقه بالقول ، ولا تعمل إلا بأمره ، فضلا عن أن يكون ملك خلق كل شيء .
[ ص: 27 ] وهؤلاء يقولون : إن الوحي والكلام الذي جاءت به الرسل ، إنما هو فيض من هذا العقل الفعال على قلوب الأنبياء . والله - تعالى - عند هؤلاء لم يكن يعرف
موسى ولا
عيسى ولا
إبراهيم ولا
محمدا ولا غيرهم من الرسل ، ولا يعرف الجزئيات ، بل عند
أرسطو وأتباعه : أنه لا يعلم شيئا من الأشياء ، بل ولا خلق عندهم شيئا ، بل ولا يقدر عندهم على خلق شيء ، فضلا عن أن يكون على كل شيء قدير وأن يكون أحاط بكل شيء علما .
وأرسطو وقومه كانوا مشركين يعبدون الأصنام
بمقدونية وأثينية وغيرهما من مدائن
فلاسفة اليونان ، وكان وزيرا
للإسكندر بن فيلبس المقدوني ، وكان هذا قبل
المسيح - عليه السلام - بنحو ثلاثمائة سنة ، ولم يكن وزيرا لذي القرنين الذي بنى سد
يأجوج ومأجوج ،
[ ص: 28 ] وعامة علم القوم علم الطبيعيات والحسابيات ، وأما العلم الإلهي - وهو الذي يسمونه علم ما بعد الطبيعة ، وهو منتهى فلسفتهم - فإنما تكلموا فيه على أمور كلية ، قسموا الوجود إلى جوهر وتسعة أعراض يجمعها بيتان
زيد الطويل الأسود بن مالك في داره بالأمس كان متكى في يده سيف نضاه فانتضى
فهذه عشر مقولات سوا
وهي : الجوهر ، والكم ، والكيف ، والأين ، ومتى ، والإضافة ، والملك ، والوضع ، وأن يفعل ، وأن ينفعل .
وقد نازعه أتباعه وغيرهم في هذا الحصر وقالوا : إنه لا دليل
[ ص: 29 ] عليه . ومنهم من جعلها ثلاثة . ومنهم من قال غير ذلك وأثبت العلة الأولى بناء على حركة الفلك ، وأنه يتحرك حركة شوقية ، فلابد له مما يتشبه به . فالعلة الأولى هي غاية لحاجة الفلك إليها من جهة أنه متحرك ليتشبه بها كحركة المؤتم بإمامه ، والمقتدي بقدوته ، وقد يقولون : كتحريك المعشوق لعاشقه .
وكلام
أرسطو في ذلك موجود ، وقد نقلته بألفاظه وتكلمت عليه في غير هذا الموضع ، وقد ذكر ذلك في مقالة اللام وهي آخر فلسفته ومنتهى حكمته .
وفي كتاب أثولوجيا " ولم يثبت أن الرب مبدع لفلك
[ ص: 30 ] وعلة فاعلة ، ولا يسمى واجب الوجود .
[ ص: 5 ] فَصْلٌ
قَالَ الْحَاكِي عَنْهُمْ : فَقُلْتُ فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَيْنَا قَوْلَنَا :
nindex.php?page=treesubj&link=29434إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - جَوْهَرٌ قَالُوا إِنَّنَا نَسْمَعُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَنَّهُمْ ذَوُو فَضْلٍ وَأَدَبٍ وَمَعْرِفَةٍ ، وَمَنْ هَذَا صُورَتُهُ ، وَقَدْ قَرَأَ شَيْئًا مِنْ كُتُبِ
الْفَلَاسِفَةِ وَالْمَنْطِقِ فَمَا حَقُّهُمْ يُنْكِرُونَ هَذَا عَلَيْنَا وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ
[ ص: 6 ] فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ إِلَّا وَهُوَ إِمَّا جَوْهَرٌ وَإِمَّا عَرَضٌ ؛ لِأَنَّ أَيَّ أَمْرٍ نَظَرْنَاهُ وَجَدْنَاهُ إِمَّا قَائِمًا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ فِي وُجُودِهِ إِلَى غَيْرِهِ ، وَهُوَ الْجَوْهَرُ ، وَإِمَّا مُفْتَقِرٌ فِي وُجُودِهِ إِلَى غَيْرِهِ لَا قِوَامَ لَهُ بِنَفْسِهِ ، وَهُوَ الْعَرَضُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِهَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ قِسْمٌ ثَالِثٌ . فَأَشْرَفُ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ الْقَائِمُ بِذَاتِهِ الْغَيْرُ مُفْتَقِرٍ فِي وُجُودِهِ إِلَى غَيْرِهِ . وَهُوَ الْجَوْهَرُ .
وَلَمَّا كَانَ الْبَارِي - تَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ - أَشْرَفَ الْمَوْجُودَاتِ ؛ إِذْ هُوَ سَبَبُ سَائِرِهَا ، أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ أَشْرَفَ الْأُمُورِ وَأَعْلَاهَا الْجَوْهَرُ ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا إِنَّهُ جَوْهَرٌ لَا كَالْجَوَاهِرِ الْمَخْلُوقَةِ ، كَمَا نَقُولُ إِنَّهُ شَيْءٌ لَا كَالْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قِوَامُهُ بِغَيْرِهِ وَمُفْتَقِرٌ فِي وُجُودِهِ إِلَى غَيْرِهِ ، وَهَذَا مِنَ الْقَبِيحِ أَنْ يُقَالَ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فَقُلْتُ
[ ص: 7 ] لَهُمْ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّا إِنَّمَا نَمْتَنِعُ مِنْ تَسَمِّيهِ جَوْهَرًا ؛ لِأَنَّ الْجَوْهَرَ مَا قَبِلَ عَرَضًا وَمَا شَغَلَ الْحَيِّزَ وَلِهَذَا مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ - تَعَالَى - جَوْهَرٌ . قَالُوا : إِنَّ الَّذِي يَقْبَلُ عَرَضًا وَيَشْغَلُ حَيِّزًا هُوَ الْجَوْهَرُ الْكَثِيفُ ، فَأَمَّا الْجَوْهَرُ اللَّطِيفُ فَمَا يَقْبَلُ عَرَضًا وَلَا يَشْغَلُ حَيِّزًا ؛ مِثْلَ جَوْهَرِ النَّفْسِ ، وَجَوْهَرِ الْعَقْلِ ، وَجَوْهَرِ الضَّوْءِ ، وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى مِنَ الْجَوَاهِرِ اللَّطِيفَةِ الْمَخْلُوقَةِ .
فَإِذَا كَانَتِ الْجَوَاهِرُ اللَّطِيفَةُ الْمَخْلُوقَةُ لَا تَقْبَلُ عَرَضًا ، وَلَا تَشْغَلُ حَيِّزًا فَيَكُونُ خَالِقُ الْجَوَاهِرِ اللَّطَائِفِ وَالْكَثَائِفِ ، وَمُرَكِّبُ اللَّطَائِفِ بِالْكَثَائِفِ يَقْبَلُ عَرَضًا وَيَشْغَلُ حَيِّزًا ؟ كَلَّا .
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدهَا : أَنْ يُقَالَ : أَمَّا تَسْمِيَةُ الْبَارِي جَوْهَرًا . فَهُوَ مِنْ أَهْوَنِ مَا يُنْكَرُ عَلَى
النَّصَارَى ؛ وَلِهَذَا كَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُنْكِرُهُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ - فَقَطْ - أَوِ اللُّغَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُهُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ أَيْضًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَاهُ نِزَاعًا لَفْظِيًّا . وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُسَمُّونَهُ جَوْهَرًا وَجِسْمًا أَيْضًا . وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى طَرِيقَتَيْنِ ، فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَقُولُ : إِنَّ أَسْمَاءَهُ سَمْعِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ ، فَلَا يُسَمَّى إِلَّا بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الشَّرِيعَةُ ، فَإِنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ ، وَالْعِبَادَاتُ مَبْنَاهَا عَلَى التَّوْقِيفِ وَالِاتِّبَاعِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : مَا صَحَّ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ ، وَكَانَ مَعْنَاهُ ثَابِتًا لَهُ ،
[ ص: 8 ] لَمْ يَحْرُمْ تَسْمِيَتُهُ بِهِ ، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْنَا ذَلِكَ ، فَيَكُونُ عَفْوًا . وَالصَّوَابُ الْقَوْلُ الثَّالِثُ ؛ وَهُوَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يُدْعَى بِالْأَسْمَاءِ أَوْ يُخْبَرَ بِهَا عَنْهُ . فَإِذَا دُعِيَ لَمْ يُدْعَ إِلَّا بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى كَمَا قَالَ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=180وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ
وَأَمَّا الْإِخْبَارُ عَنْهُ فَهُوَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ ؛ فَإِذَا احْتِيجَ فِي تَفْهِيمِ الْغَيْرِ الْمُرَادَ إِلَى أَنْ يُتَرْجَمَ أَسْمَاؤُهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ ، أَوْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمٍ لَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُحَرَّمًا .
وَأَمَّا الَّذِينَ مَنَعُوهُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ فَكَثِيرٌ : مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُونَ : إِنَّ الْجَوْهَرَ مَا شَغَلَ الْحَيِّزَ ، وَحَمَلَ الْأَعْرَاضَ وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ نَفَى ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْجَوْهَرُ مَا إِذَا وُجِدَ كَانَ وُجُودُهُ لَا فِي مَوْضُوعٍ ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا وُجُودُهُ زَائِدٌ عَلَى ذَاتِهِ ، وَوَاجِبُ الْوُجُودِ وُجُودُهُ عَيْنُ ذَاتِهِ ، فَلَا يَكُونُ
[ ص: 9 ] جَوْهَرًا . وَهَذَا قَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=13251ابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْمُتَفَلْسِفَةِ .
وَأَمَّا قُدَمَاءُ
الْفَلَاسِفَةِ ؛
كَأَرِسْطُو وَأَمْثَالِهِ ؛ فَكَانُوا يُسَمُّونَهُ جَوْهَرًا ؛ وَعَنْهُمْ أَخَذَتِ
النَّصَارَى هَذِهِ التَّسْمِيَةَ ؛ فَإِنَّ
أَرِسْطُو كَانَ قَبْلَ
الْمَسِيحِ [ ص: 10 ] بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَلِهَذَا قَالَ هَؤُلَاءِ فِي كِتَابِهِمْ نَعْجَبُ مِمَّنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَهُوَ قَدْ قَرَأَ شَيْئًا مِنْ كُتُبِ
الْفَلَاسِفَةِ وَالْمَنْطِقِ .
وَأَمَّا اللُّغَةُ : فَإِنَّ لَفْظَ الْجَوْهَرِ لَيْسَ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ الْعَرْبَاءِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْمَحْضِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُعَرَّبٌ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ
الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ ، قَالَ
الْجَوْهَرِيُّ : الْجَوْهَرُ مُعَرَّبٌ ، الْوَاحِدَةُ
[ ص: 11 ] جَوْهَرَةٌ ، فَهُوَ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ الْمُعَرَّبَةِ ، لَا مِنَ الْعَرَبِيَّةِ الْعَرْبَاءِ ، كَلَفْظِ سِجِّيلٍ ، وَإِسْتَبْرَقٍ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُعَرَّبَةِ ، وَهَذَا اللَّفْظُ لَيْسَ مَوْجُودًا فِي الْقُرْآنِ . وَمَعَ هَذَا فَلَمَّا عُرِّبَ كَانَ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْجَوْهَرَ الْمَعْرُوفَ . وَتَسْمِيَةُ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ أَوِ الشَّاغِلِ لِلْحَيِّزِ جَوْهَرًا ، فَهُوَ أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ ، لَيْسَ هُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ وَلَا الْعُرْفِيَّةِ الْعَامَّةِ ، وَلَا الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ .
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ الْأَوَائِلِ ،
كَالْيُونَانِ وَغَيْرِهِمْ ، فَإِنَّهُ
[ ص: 12 ] يُوجَدُ فِي كَلَامِهِمْ تَسْمِيَةُ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ جَوْهَرًا . وَقَدْ قِيلَ : سَمَّوْهُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ جَوْهَرَ الشَّيْءِ أَصْلُهُ وَالْقَائِمُ بِنَفْسِهِ هُوَ الْأَصْلُ . وَقَدْ يُسَمُّونَ الْعَرَضَ الْقَائِمَ بِغَيْرِهِ جَوْهَرًا . وَقِيلَ : لِأَنَّ لَفْظَ الْجَوْهَرِ ، فَوَعْلٌ ، مِنَ الْجَهْرِ ؛ وَهُوَ الظُّهُورُ وَالْوُضُوحُ ، وَالْقَائِمُ بِنَفْسِهِ يَظْهَرُ وَيُعْرَفُ قَبْلَ أَنْ يُعْرَفَ مَا قَامَ بِهِ مِنَ الْأَعْرَاضِ .
وَالنَّاسُ مُتَّفِقُونَ عَلَى إِثْبَاتِ الْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهَا الَّتِي تُسَمَّى جَوَاهِرَ أَوْ أَجْسَامًا ، وَتَنَازَعُوا فِي ثُبُوتِ الْأَعْرَاضِ الْقَائِمَةِ بِهَا ، وَالنِّزَاعُ عِنْدَ مُحَقَّقِيهِمْ لَفْظِيٌّ ، فَإِنَّ عَاقِلًا لَا يُنَازِعُ أَنَّ الْجِسْمَ يَتَحَرَّكُ بَعْدَ سُكُونِهِ . لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : حَرَكَتُهُ لَيْسَتْ زَائِدَةً عَلَى ذَاتِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هِيَ زَائِدَةٌ عَلَى ذَاتِهِ . وَهُوَ نَظِيرُ نِزَاعِهِمْ فِي الصِّفَاتِ : هَلْ هِيَ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ أَوْ لَيْسَتْ زَائِدَةً ؟ .
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مُسَمَّى الْإِنْسَانِ إِذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ صِفَاتُهُ ، وَإِذَا مُيِّزَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا قِيلَ : الذَّاتُ وَالصِّفَاتُ . وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَخُصُّ بِلَفْظِ الْعَرَضِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الصِّفَاتِ لَازِمًا لِلْمَوْصُوفِ ، وَالصِّفَاتُ اللَّازِمَةُ يُسَمِّيهَا صِفَاتٍ ذَاتِيَّةً جَوْهَرِيَّةً . وَمِنْهُمْ مَنْ يَخُصُّ بِالْعَرَضِ
[ ص: 13 ] مَا لَا يَبْقَى عِنْدَهُ زَمَانَيْنِ ، وَيَقُولُ : صِفَاتُ الْمَخْلُوقِ تُسَمَّى أَعْرَاضًا ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْبَلُ زَمَانَيْنِ بِخِلَافِ صِفَاتِ اللَّهِ ، فَإِنَّهَا عِنْدَهُ بَاقِيَةٌ فَلَا تُسَمَّى أَعْرَاضًا .
وَمِنْ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُسَمِّي صِفَاتِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَعْرَاضًا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَدْخُلُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ الَّتِي تُذْكَرُ فِي أُصُولِ الْإِيمَانِ الَّتِي يَجِبُ اعْتِقَادُهَا مِنَ الْأَسْمَاءِ مَا هُوَ اصْطِلَاحُ طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ ، مَعَ أَنَّهُ يُوهِمُ مَعْنًى بَاطِلًا . وَهَذَا الْوَضْعُ مِمَّا اضْطَرَبَ فِيهِ - مَعَ
النَّصَارَى - كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ .
مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الصِّفَاتِ أَعْيَانًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا وَجَوَاهِرَ قَائِمَةً بِنَفْسِهَا .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الْأَعْيَانَ الْقَائِمَةَ بِنَفْسِهَا صِفَاتٍ ، وَالصِّفَاتُ لَا تَقُومُ بِأَنْفُسِهَا بَلْ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَوْصُوفٍ تَقُومُ بِهِ .
وَالْأَوَّلُونَ نَوْعَانِ :
مِنْهُمْ مَنْ نَفَى الصِّفَاتِ ، وَقَالَ : لَوْ أَثْبَتْنَا لَهُ حَيَاةً وَعِلْمًا وَقُدْرَةً
[ ص: 14 ] لَزِمَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ آلِهَةً فَإِنَّ الْقِدَمَ أَخَصُّ وَصْفِهِ ، فَلَوْ أَثْبَتْنَا قَدِيمًا لَيْسَتْ هِيَ الذَّاتَ ، لَزِمَ أَنْ يُشَارِكَ الذَّاتَ فِي أَخَصِّ وَصْفِهَا ، فَتَكُونُ ذَاتًا أُخْرَى قَائِمَةً بِنَفْسِهَا . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ كَثِيرٍ مِنْ نُفَاةِ الصِّفَاتِ مِنْ مُبْتَدِعَةِ الْمُسْلِمِينَ ،
وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى احْتَجُّوا عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ بِأَنَّا لَوْ أَثْبَتْنَاهَا لَزِمَ أَنْ تَكُونَ آلِهَةً .
وَقَالَ مَنْ قَالَ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ : أَنَّا لَوْ أَثْبَتْنَا الصِّفَاتِ لَقُلْنَا بِقَوْلِ
النَّصَارَى ، حَيْثُ أَثْبَتُوا لِلَّهِ الْأَقَانِيمَ ، وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ قَائِمَةٌ عَلَى
النَّصَارَى ، وَهُمُ النَّوْعُ الثَّالِثُ ، فَإِنَّهُمْ أَثْبَتُوا لِلَّهِ صِفَاتٍ جَعَلُوهَا جَوْهَرًا
[ ص: 15 ] قَائِمًا بِنَفْسِهِ ، وَقَالُوا : إِنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ حَيٌّ نَاطِقٌ ، ثُمَّ قَالُوا حَيَاتُهُ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ ، وَنُطْقُهُ - وَهُوَ الْكَلِمَةُ - جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَقَالُوا فِي هَذَا : إِنَّهُ إِلَهٌ مِنْ إِلَهٍ ، وَهَذَا إِلَهٌ مِنْ إِلَهٍ ، فَأَثْبَتُوا صِفَاتٍ لِلَّهِ وَجَعَلُوهَا جَوَاهِرَ قَائِمَةً بِنَفْسِهَا ، ثُمَّ قَالُوا : الْجَمِيعُ جَوْهَرٌ ، فَكَانَ فِي كَلَامِهِمْ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْبَاطِلِ الْمُتَنَاقِضِ . مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الصِّفَاتِ جَوْهَرًا . وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْجَوَاهِرَ الْمُتَعَدِّدَةَ جَوْهَرًا وَاحِدًا .
وَالَّذِينَ قَالُوا مِنْ نُفَاةِ الصِّفَاتِ
الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ : إِنَّ مَنْ أَثْبَتَ الصِّفَاتِ فَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ
النَّصَارَى ، هُوَ مُتَوَجِّهٌ عَلَى مَنْ جَعَلَ الصِّفَاتِ جَوَاهِرَ . وَهَؤُلَاءِ هُمُ
النَّصَارَى يَزْعُمُونَ أَنَّ الصِّفَاتِ جَوَاهِرُ آلِهَةٍ ، ثُمَّ قَالَ هَؤُلَاءِ : وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَلَا صِفَةَ لَهُ . وَقَالَتِ
النَّصَارَى : بَلِ الْأَبُ جَوْهَرُ إِلَهٍ ، وَالِابْنُ جَوْهَرُ إِلَهٍ ، وَرُوحُ الْقُدُسِ جَوْهَرُ إِلَهٍ ، ثُمَّ قَالُوا : وَالْجَمِيعُ إِلَهٌ وَاحِدٌ . وَنَفْسُ تَصَوُّرِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ - التَّصَوُّرَ التَّامَّ - يُوجِبُ الْعِلْمَ بِفَسَادِهَا . وَأَمَّا الرُّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ فَنَطَقُوا أَنَّ لِلَّهِ عِلْمًا وَقُدْرَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ ، وَثَبَتُوا أَنَّ الْإِلَهَ إِلَهٌ وَاحِدٌ . فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : عَبَدْتُ اللَّهَ وَدَعَوْتُ اللَّهَ ؛ فَإِنَّمَا دَعَا وَعَبَدَ إِلَهًا وَاحِدًا ؛ وَهُوَ ذَاتٌ مُتَّصِفَةٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ ، لَمْ يَعْبُدْ ذَاتًا لَا حَيَاةَ لَهَا وَلَا عِلْمَ وَلَا قُدْرَةَ ، وَلَا عَبَدَ ثَلَاثَةَ آلِهَةٍ وَلَا ثَلَاثَةَ جَوَاهِرَ ، بَلْ نَفْسُ اسْمِ اللَّهِ يَتَضَمَّنُ ذَاتَهُ الْمُقَدَّسَةَ الْمُتَّصِفَةَ
[ ص: 16 ] بِصِفَاتِهِ - سُبْحَانَهُ - وَلَيْسَتْ صِفَاتُهُ خَارِجَةً عَنْ مُسَمَّى اسْمِهِ ، وَلَا زَائِدَةً عَلَى مُسَمَّى اسْمِهِ ، بَلْ إِذَا قُدِّرَ ذَاتٌ مُجَرَّدَةٌ عَنِ الصِّفَاتِ ، فَالصِّفَاتُ زَائِدَةٌ عَلَى هَذِهِ الذَّاتِ الْمُقَدَّرَةِ فِي الذِّهْنِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الصِّفَاتِ لَيْسَتِ الصِّفَاتُ زَائِدَةً عَنِ الذَّاتِ الْمُتَّصِفَةِ بِالصِّفَاتِ ، فَإِنَّ تِلْكَ لَا تَحَقَّقُ إِلَّا بِصِفَاتِهَا فَتَقْدِيرُهَا - مُجَرَّدَةً عَنْ صِفَاتِهَا - تَقْدِيرٌ مُمْتَنِعٌ .
وَقَدْ تَنَازَعَ الْمُثْبِتَةُ : هَلْ يُقَالُ الصِّفَاتُ عَيْنُ الذَّاتِ ، أَمْ يُقَالُ لَيْسَتْ عَيْنَ الذَّاتِ ؟ أَمْ يُقَالُ : لَا يُقَالُ هُنَّ غَيْرُ الذَّاتِ ، وَلَا يُقَالُ لَيْسَتْ غَيْرَ الذَّاتِ ؟ وَتَنَازَعُوا فِي مُسَمَّى الْغَيْرَيْنِ : هَلْ هُمَا مَا جَازَ مُفَارَقَةُ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ مُطْلَقًا ، أَوْ مَا جَازَ مُفَارَقَتُهُ بِوُجُودٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ ، أَوْ هُمَا مَا جَازَ الْعِلْمُ بِأَحَدِهِمَا مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْآخَرِ ؟ وَغَايَةُ ذَلِكَ مُنَازَعَاتٌ لَفْظِيَّةٌ .
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَرَّقَ فِي الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ بَيْنَ بَعْضِهَا وَبَعْضٍ ؛ فَجَعَلَ بَعْضَهَا زَائِدًا عَلَى الذَّاتِ وَبَعْضَهَا لَيْسَ بِزَائِدٍ عَلَى الذَّاتِ ، وَكَانَ الْفَرْقُ بِحَسَبِ مَا يَتَصَوَّرُهُ ، لَا بِحَسَبِ مَا الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ . فَإِذَا
[ ص: 17 ] أَمْكَنَهُمْ تَصَوُّرُ الذَّاتِ بِدُونِ صِفَةٍ قَالُوا : هَذِهِ زَائِدَةٌ ، وَإِلَّا قَالُوا لَيْسَتْ زَائِدَةً . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مَا تَصَوَّرُوهُ هُمْ مِنَ الذَّاتِ ، لَا أَنَّهُ فِي الْخَارِجِ ذَاتٌ مُجَرَّدَةٌ عَنْ تِلْكَ الصِّفَةِ ، وَصِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَيْهَا ، بَلْ لَيْسَ إِلَّا الذَّاتُ الْمُتَّصِفَةُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ .
وَلَكِنْ يَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ : إِنَّ الصِّفَاتِ غَيْرُ الذَّاتِ ، وَبَيْنَ أَنْ يُقَالَ : إِنَّهَا غَيْرُ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ اسْمَ ( اللَّهِ ) مُتَنَاوِلٌ لِذَاتِهِ الْمُتَّصِفَةِ بِصِفَاتِهِ . فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : دَعَوْتُ اللَّهَ وَعَبَدْتُ اللَّهَ ؛ فَلَمْ يَدْعُ ذَاتًا مُجَرَّدَةً وَلَا صِفَاتٍ مُجَرَّدَةً ، بَلْ دَعَا الذَّاتَ الْمُتَّصِفَةَ بِصِفَاتِهَا فَاسْمُهُ - تَعَالَى - يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ . فَلَيْسَتْ صِفَاتُهُ خَارِجَةً عَنْ مُسَمَّى اسْمِهِ وَلَا زَائِدَةً عَلَى ذَلِكَ ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ الْمُتَّصِفَةِ بِصِفَاتِهَا الَّتِي تَدْخُلُ صِفَاتُهَا فِي مُسَمَّاهَا ، فَقَدْ غَلِطَ وَلَكِنْ فِي الْأَذْهَانِ وَالْأَلْسِنَةِ زَلَقٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَثِيرًا .
فَإِذَا قِيلَ : الصِّفَاتُ مُغَايِرَةٌ لِلذَّاتِ ، لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا مِنَ الْمَحْذُورِ مَا فِي قَوْلِنَا : إِنَّ صِفَاتِ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ اسْمَ اللَّهِ يَتَنَاوَلُ صِفَاتِهِ .
فَإِذَا قِيلَ : إِنَّهَا غَيْرُهُ ؛ فُهِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا مُبَايِنَةٌ لَهُ وَهَذَا بَاطِلٌ . وَلِهَذَا كَانَ النُّفَاةُ إِذَا نَاظَرُوا أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ ، كَمَا نَاظَرُوا الْإِمَامَ
[ ص: 18 ] nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فِي مِحْنَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فَقَالُوا لَهُ : " مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ اللَّهِ ، أَهْوَ اللَّهُ أَمْ غَيْرُ اللَّهِ ؟ " عَارَضَهُمْ بِالْعِلْمِ ؛ وَقَالَ لَهُمْ : " مَا تَقُولُونَ فِي عِلْمِ اللَّهِ ، أَهْوَ اللَّهُ أَمْ غَيْرُ اللَّهِ ؟ " . وَأَجَابَ - أَيْضًا -
[ ص: 19 ] بِأَنَّ الرُّسُلَ لَمْ تَنْطِقْ بِوَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ ، فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُلْ لِكَلَامِهِ : هُوَ أَنَا ، وَلَا قَالَ : إِنَّهُ غَيْرِي ! حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ : إِذَا كَانَ قَدْ جَعَلَ كَلَامَهُ غَيْرَهُ وَسِوَاهُ فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَالِقٌ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ ! .
فَإِنْ كَانَ الِاحْتِجَاجُ بِالسَّمْعِ ؛ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ الِاحْتِجَاجُ بِالْعَقْلِ ؛ فَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْمَعَانِي لَا إِلَى الْعِبَارَاتِ . فَإِنْ أَرَادَ الْمُرِيدُ بِقَوْلِهِ : هَلْ كَلَامُهُ وَعِلْمُهُ غَيْرُهُ ، أَنَّهُ مُبَايِنٌ لَهُ . فَلَيْسَ هُوَ غَيْرًا لَهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ . وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ وَالْعِلْمِ لَيْسَ هُوَ الْعَالِمَ الْمُتَكَلِّمَ ؛ فَهُوَ غَيْرٌ لَهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ . وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُجْمَلًا لَمْ يَجُزْ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُفْهِمُ الْمَعْنَى الْفَاسِدَ . وَأَمَّا الَّذِينَ جَعَلُوا الْأَعْيَانَ الْقَائِمَةَ بِأَنْفُسِهَا صِفَاتٍ ، فَهُمْ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ النُّفَاةُ لِلصِّفَاتِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : إِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَقْلٌ وَعَاقِلٌ وَمَعْقُولٌ .
وَلَفْظُ ( الْعَقْلِ ) عِنْدَهُمْ وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ : هُوَ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ ، فَقَدْ صَرَّحُوا أَيْضًا بِأَنَّهُ - نَفْسَهُ - عِلْمُهُ ، حَتَّى صَرَّحُوا بِأَنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ عِلْمٌ ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ
nindex.php?page=showalam&ids=13171ابْنُ رُشْدٍ وَغَيْرُهُ ، وَنَقَلُوهُ عَنْ
أَرِسْطُو ،
[ ص: 20 ] وَأَنَّ الْعُقُولَ الْعَشَرَةَ كُلٌّ مِنْهَا عِلْمٌ ، فَهُوَ عِلْمٌ وَعَالِمٌ وَمَعْلُومٌ ، بَلْ قَالُوا : عَقْلٌ وَعَاقِلٌ وَمَعْقُولٌ ، وَعَاشِقٌ وَمَعْشُوقٌ وَعِشْقٌ ، وَلَذِيذٌ وَمُلْتَذٌّ وَلَذَّةٌ ، فَجَعَلُوهُ - نَفْسَهُ - لَذَّةً وَعَقْلًا وَعِشْقًا ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ هُوَ الْعَالِمَ الْعَاشِقَ الْمُلْتَذَّ ، وَجَعَلُوا نَفْسَ الْعِلْمِ نَفْسَ الْعِشْقِ وَنَفْسَ اللَّذَّةِ ؛ فَجَعَلُوهُ - نَفْسَهُ - صِفَاتٍ ، وَجَعَلُوهُ ذَاتًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا ، وَجَعَلُوا كُلَّ صِفَةٍ هِيَ الْأُخْرَى ، وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ - بِصَرِيحِ الْعَقْلِ - بُطْلَانُهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ - نَفْسَهُ - عِلْمٌ ، فَإِنَّهُ يَقُولُ : هُوَ عَاقِلٌ وَمَعْقُولٌ وَعَقْلٌ ؛ يَقُولُ : إِنَّهُ يَعْلَمُ - نَفْسَهُ - بِلَا عِلْمٍ عَلِمَهُ ، بَلْ هُوَ الْعَالِمُ ، وَهُوَ الْمَعْلُومُ وَهُوَ الْعِلْمُ . وَحَقِيقَةُ كَلَامِهِمْ تَعُودُ إِلَى قَوْلِ أُولَئِكَ ؛ فَإِنَّهُمْ إِذَا قَالُوا : إِنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يَعْلَمُ بِهِ ذَاتَهُ هُوَ الْعَالِمُ وَهُوَ الْمَعْلُومُ ؛ فَقَدْ جَعَلُوا نَفْسَ الْعِلْمِ نَفْسَ الْعَالِمِ وَنَفْسَ الْعِلْمِ نَفْسَ الْمَعْلُومِ وَهِيَ حَقِيقَةُ قَوْلِ أُولَئِكَ ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
[ ص: 20 ] الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ لَهُمْ : أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّكُمْ مُتَّبِعُونَ لِلْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَنْبَغِ لَكُمْ فِي شَرِيعَةِ إِيمَانِكُمْ مِنَ الْأَسْمَاءِ إِلَّا مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ .
وَالْأَنْبِيَاءُ لَمْ يُسَمِّ اللَّهَ أَحَدٌ مِنْهُمْ جَوْهَرًا ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ بِذَلِكَ
أَرِسْطُو وَأَمْثَالُهُ ، وَهَؤُلَاءِ كَانُوا مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَلَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ اللَّهَ الْمَعْرِفَةَ الصَّحِيحَةَ ، وَلَا يَقُولُونَ : إِنَّهُ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ، وَلَا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ الْعُلْوِيَّةَ ، وَالْأَصْنَامَ السُّفْلِيَّةَ وَيَعْبُدُونَ الشَّيَاطِينَ وَيُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ، وَإِنَّمَا صَارُوا مُؤْمِنِينَ لَمَّا دَخَلَ إِلَيْهِمْ دِينُ الْمَسِيحِ ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بَعْدَ
الْإِسْكَنْدَرِ الْمَقْدُونِيِّ [ ص: 22 ] - صَاحِبِ
أَرِسْطُو - بِنَحْوِ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ . وَيُقَالُ : إِنَّهُ آخِرُ مُلُوكِهِمْ كَانَ (
بَطْلَيْمُوسَ ) وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْمَلِكَ مِنْ مُلُوكِهِمْ ( بَطْلَيْمُوسَ ) كَمَا يُسَمُّونَ
الْقِبْطُ مَلِكَهَا ( فِرْعَوْنَ )
وَالْحَبَشَةُ مَلِكَهَا ( النَّجَاشِيَّ )
وَالْفُرْسُ ( كِسْرَى ) وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَحِينَئِذٍ فَعُدُولُكُمْ عَنْ طَرِيقَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ . إِلَى طَرِيقَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ الْمُعَطِّلِينَ مِنَ الضَّلَالِ الْمُبِينِ .
وَفِي كُتُبِهِمْ : أَنْ
بُولِصَ لَمَّا صَارَ إِلَى ( أَيْثِينِيَّةَ ) دَارِ
الْفَلَاسِفَةِ ، وَفِيهَا دَارُ الْأَصْنَامِ ، وَجَدَ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِ دَارِ الْعُلَمَاءِ : الْإِلَهُ الْخَفِيُّ
[ ص: 23 ] الَّذِي لَا يُعْرَفُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْعَالَمَ .
فَكَانُوا لَا يَعْرِفُونَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ، فَكَيْفَ يُعْدَلُ عَنْ طَرِيقَةِ رُسُلِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ
كَمُوسَى ،
وَدَاوُدَ ،
وَالْمَسِيحِ ، إِلَى طَرِيقَةِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَطِّلِينَ ؟ ! .
وَلَكِنَّ
النَّصَارَى رَكَّبُوا دِينًا مِنْ دِينَيْنِ : مِنْ دِينِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُوَحِّدِينَ وَدِينِ الْمُشْرِكِينَ ، فَصَارَ فِي دِينِهِمْ قِسْطٌ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ ، وَقِسْطٌ مِمَّا ابْتَدَعُوهُ مِنْ دِينِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ ، كَمَا أَحْدَثُوا أَلْفَاظَ الْأَقَانِيمِ ، وَهِيَ أَلْفَاظٌ لَا تُوجَدُ فِي كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَكَمَا أَحْدَثُوا الْأَصْنَامَ الْمَرْقُومَةَ بَدَلَ الْأَصْنَامِ الْمُجَسَّدَةِ ، وَالصَّلَاةَ إِلَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ ، بَدَلَ الصَّلَاةِ لَهَا ، وَالصِّيَامَ فِي وَقْتِ الرَّبِيعِ ، لِيَجْمَعُوا بَيْنَ الدِّينِ الشَّرْعِيِّ وَالْأَمْرِ الطَّبِيعِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : قَوْلُهُمْ : إِنَّ الَّذِي يَشْغَلُ حَيِّزًا وَيَقْبَلُ عَرَضًا هُوَ الْجَوْهَرُ الْكَثِيفُ ، فَأَمَّا الْجَوْهَرُ اللَّطِيفُ فَمَا يَقْبَلُ عَرَضًا وَلَا يَشْغَلُ حَيِّزًا ، مِثْلَ جَوْهَرِ النَّفْسِ وَجَوْهَرِ الْعَقْلِ وَجَوْهَرِ الضَّوْءِ . فَيُقَالُ : الْكَلَامُ فِي
[ ص: 24 ] الْجَوَاهِرِ . هَلْ هِيَ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى مُتَحَيِّزٍ وَغَيْرِ مُتَحَيِّزٍ أَوْ كُلُّهَا مُتَحَيِّزَةٌ ؟ مُتَّصِلٌ بِالْكَلَامِ عَلَى نَفْسِ الْإِنْسَانِ النَّاطِقَةِ .
فَنَقُولُ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ مَعْرِفَةً بِوُجُودِ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ ، وَكَذَلِكَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا يَعْرِفُونَ وُجُودَ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ رُوحُ الْإِنْسَانِ الَّتِي تُفَارِقُ بَدَنَهُ حِينَ الْمَوْتِ ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَزْعُمُ أَنَّهَا عَرَضٌ مِنْ
[ ص: 25 ] أَعْرَاضِ الْبَدَنِ ، أَوْ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ ، فَهَذَا قَوْلٌ مُحْدَثٌ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ ، وَإِنْ كَانَ مَحْكِيًّا عَنْ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ ، فَلَيْسَ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا أَئِمَّتِهَا ، بَلْ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ الْمَذْمُومِ عِنْدَ السَّلَفِ . وَأَئِمَّةُ الْأُمَّةِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُتَفَلْسِفَةِ الدَّاخِلِينَ فِي أَهْلِ الْمِلَلِ يَقُولُونَ : إِنَّ الذَّوَاتِ الَّتِي تُسَمِّيهَا الْأَنْبِيَاءُ الْمَلَائِكَةَ هِيَ الَّتِي تُسَمِّيهَا الْمُتَفَلْسِفَةُ الْمَشَّاءُونَ عُقُولًا ، أَوْ عُقُولًا وَنُفُوسًا ، وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ .
فَإِنَّ الْعُقُولَ الَّتِي يُثْبِتُهَا هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ لَا حَقِيقَةَ لَهَا عِنْدَ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ ، بَلْ وَلَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي الْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ ، بَلْ حَقِيقَةُ كَلَامِهِمْ أَنَّهَا أَعْرَاضٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا . وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ - نَفْسَهُ - هُوَ عِلْمٌ ، وَجَعَلُوا نَفْسَ الْعِلْمِ هُوَ نَفْسَ الْعَالِمِ ، وَنَفْسُ تَصَوُّرِ هَذَا الْقَوْلِ يَكْفِي فِي الْعِلْمِ بِفَسَادِهِ ، كَمَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةَ
[ ص: 26 ] - أَتْبَاعَ
أَرِسْطُو - لَا يَعْرِفُونَ الْمَلَائِكَةَ ، بَلْ وَلَا الْجِنَّ ، وَإِنَّمَا عِلْمُهُمْ مَعْرِفَةُ الْأَجْسَامِ الطَّبِيعِيَّةِ ، وَتَكَلَّمُوا فِي الْإِلَهِيَّاتِ بِكَلَامٍ قَلِيلٍ نَزْرٍ ؛ بَاطِلُهُ أَكْثَرُ مِنْ حَقِّهِ ، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ .
وَهَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْعَقْلَ الْأَوَّلَ أَبْدَعَ مَا دُونَهُ مِنَ الْعُقُولِ وَالْأَفْلَاكِ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إِلَى الْعَقْلِ الْعَاشِرِ ، فَهُوَ مُبْدِعٌ مَا تَحْتَ فَلَكِ الْقَمَرِ . وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ عِنْدَ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ أَهْلِ الْمِلَلِ . فَإِنَّ مَضْمُونَ هَذَا أَنَّ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ خَلَقَ كُلَّ مَا تَحْتَ السَّمَاءِ ، وَمَلَكًا فَوْقَهُ خَلَقَ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ فِي دِينِ الْمُرْسَلِينَ وَأَهْلِ الْمِلَلِ الْمُسْلِمِينَ
وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . قَالَ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=26وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=27لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=28يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ
فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَسْبِقُهُ بِالْقَوْلِ ، وَلَا تَعْمَلُ إِلَّا بِأَمْرِهِ ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَلَكٌ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ .
[ ص: 27 ] وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إِنَّ الْوَحْيَ وَالْكَلَامَ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ ، إِنَّمَا هُوَ فَيْضٌ مِنْ هَذَا الْعَقْلِ الْفَعَّالِ عَلَى قُلُوبِ الْأَنْبِيَاءِ . وَاللَّهُ - تَعَالَى - عِنْدَ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ
مُوسَى وَلَا
عِيسَى وَلَا
إِبْرَاهِيمَ وَلَا
مُحَمَّدًا وَلَا غَيْرَهُمْ مِنَ الرُّسُلِ ، وَلَا يَعْرِفُ الْجُزْئِيَّاتِ ، بَلْ عِنْدَ
أَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ : أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ ، بَلْ وَلَا خَلَقَ عِنْدَهُمْ شَيْئًا ، بَلْ وَلَا يَقْدِرُ عِنْدَهُمْ عَلَى خَلْقِ شَيْءٍ ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنْ يَكُونَ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا .
وَأَرِسْطُو وَقَوْمُهُ كَانُوا مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ
بِمَقْدُونِيَّةَ وَأَثِينِيَّةَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ مَدَائِنِ
فَلَاسِفَةِ الْيُونَانِ ، وَكَانَ وَزِيرًا
لِلْإِسْكَنْدَرِ بْنِ فِيلِبْسَ الْمَقْدُونِيِّ ، وَكَانَ هَذَا قَبْلَ
الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِنَحْوِ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ ، وَلَمْ يَكُنْ وَزِيرًا لِذِي الْقَرْنَيْنِ الَّذِي بَنَى سَدَّ
يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ،
[ ص: 28 ] وَعَامَّةُ عِلْمِ الْقَوْمِ عِلْمُ الطَّبِيعِيَّاتِ وَالْحِسَابِيَّاتِ ، وَأَمَّا الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ - وَهُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ عِلْمَ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ ، وَهُوَ مُنْتَهَى فَلْسَفَتِهِمْ - فَإِنَّمَا تَكَلَّمُوا فِيهِ عَلَى أُمُورٍ كُلِّيَّةٍ ، قَسَّمُوا الْوُجُودَ إِلَى جَوْهَرٍ وَتِسْعَةِ أَعْرَاضٍ يَجْمَعُهَا بَيْتَانِ
زَيْدُ الطَّوِيلُ الْأَسْوَدُ بْنُ مَالِكٍ فِي دَارِهِ بِالْأَمْسِ كَانَ مُتَّكَى فِي يَدِهِ سَيْفٌ نَضَاهُ فَانْتَضَى
فَهَذِهِ عَشْرُ مَقُولَاتٍ سِوَا
وَهِيَ : الْجَوْهَرُ ، وَالْكَمُّ ، وَالْكَيْفُ ، وَالْأَيْنُ ، وَمَتَى ، وَالْإِضَافَةُ ، وَالْمِلْكُ ، وَالْوَضْعُ ، وَأَنْ يَفْعَلَ ، وَأَنْ يَنْفَعِلَ .
وَقَدْ نَازَعَهُ أَتْبَاعُهُ وَغَيْرُهُمْ فِي هَذَا الْحَصْرِ وَقَالُوا : إِنَّهُ لَا دَلِيلَ
[ ص: 29 ] عَلَيْهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا ثَلَاثَةً . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ وَأَثْبَتَ الْعِلَّةَ الْأُولَى بِنَاءً عَلَى حَرَكَةِ الْفَلَكِ ، وَأَنَّهُ يَتَحَرَّكُ حَرَكَةً شَوْقِيَّةً ، فَلَابُدَّ لَهُ مِمَّا يَتَشَبَّهُ بِهِ . فَالْعِلَّةُ الْأُولَى هِيَ غَايَةٌ لِحَاجَةِ الْفَلَكِ إِلَيْهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُتَحَرِّكٌ لِيَتَشَبَّهَ بِهَا كَحَرَكَةِ الْمُؤْتَمِّ بِإِمَامِهِ ، وَالْمُقْتَدِي بِقُدْوَتِهِ ، وَقَدْ يَقُولُونَ : كَتَحْرِيكِ الْمَعْشُوقِ لِعَاشِقِهِ .
وَكَلَامُ
أَرِسْطُو فِي ذَلِكَ مَوْجُودٌ ، وَقَدْ نَقَلْتُهُ بِأَلْفَاظِهِ وَتَكَلَّمْتُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَقَالَةِ اللَّامِ وَهِيَ آخِرُ فَلْسَفَتِهِ وَمُنْتَهَى حِكْمَتِهِ .
وَفِي كِتَابِ أَثُولُوجْيَا " وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الرَّبَّ مُبْدِعٌ لِفَلَكٍ
[ ص: 30 ] وَعِلَّةٌ فَاعِلَةٌ ، وَلَا يُسَمَّى وَاجِبَ الْوُجُودِ .