ولهذا لما أمروا بالجهاد نكلوا عنه وقال لهم
موسى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=21ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=22قالوا ياموسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=23قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=24قالوا ياموسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون .
[ ص: 82 ] وأما أصحاب
محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال له قائلهم يوم
بدر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=654243والله لا نقول لك كما قال قوم موسى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=24فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون .
" لكن نقاتل أمامك ووراءك وعن يمينك وعن يسارك . والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك " .
[ ص: 83 ] وكان الكلام قريبا من (
بدر ) والبحر من جهة الغرب و (
برك الغماد ) مكان من يماني
مكة ، بينه وبين
مكة عدة ليال ، والكفار كانوا - إذ ذاك -
بمكة وأصحابه من ناحية
المدينة شامي
مكة ،
فمكة جنوبهم والبحر غربهم . تقول : لو طلبت أن ندخل بلد العدو ونذهب إلى تلك الناحية لفعلناه . قالوا : فلما نصر الله
بني إسرائيل وأظهرهم ، ظهرت فيهم الأحداث بعد ذلك وتجبروا ، وقست قلوبهم وصاروا شبها
بآل فرعون ، فبعث الله
المسيح - عليه السلام - باللين والصفح والعفو عن المسيء واحتمال أذاه ؛ ليلين أخلاقهم ويزيل ما كانوا فيه من الجبرية والقسوة .
فأفرط هؤلاء في اللين حتى تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله ، وتركوا الحكم بين الناس بالعدل وإقامة الحدود ، وترهب عبادهم منفردين ، مع أن في ملوك
النصارى من الجبرية والقسوة والحكم بغير ما أنزل الله وسفك الدماء بغير حق مما يأمرهم به علماؤهم وعبادهم ومما لم يأمروهم به ما شاركوا فيه
اليهود .
nindex.php?page=treesubj&link=28641_28643_30231فبعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالشريعة الكاملة العادلة ، وجعل أمته عدلا خيارا لا ينحرفون إلى هذا الطرف ولا إلى هذا الطرف ، بل يشتدون على أعداء الله ويلينون لأولياء الله ويستعملون العفو والصفح فيما كان لنفوسهم ، ويستعملون الانتصار والعقوبة فيما كان حقا لله .
[ ص: 84 ] وهذا كان خلق نبيهم ، كما في الصحيحين عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة قالت : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=706045ما ضرب رسول الله بيده خادما ولا امرأة ولا دابة ولا شيئا قط ، إلا أن يجاهد في سبيل الله ، ولا نيل منه شيء قط فانتقم لنفسه ، إلا أن تنتهك محارم الله ، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله " .
وفي الصحيح عن
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=693406خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين ، فما قال لي أف قط ، ولا قال لشيء فعلته لم فعلته ؟ ولا لشيء لم أفعله : لم لا فعلته ؟ nindex.php?page=hadith&LINKID=693783وكان بعض أهله [ ص: 85 ] إذا عتبوني على شيء يقول : " دعوه ، فلو قدر شيء لكان " ، هذا مع قوله - في الحديث الصحيح -
nindex.php?page=hadith&LINKID=704979لما سرقت امرأة كانت من أشرف قريش من بني مخزوم فأمر بقطع يدها ، فقالوا : من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقالوا : من يجترئ عليه إلا nindex.php?page=showalam&ids=111أسامة بن زيد ؟ فكلموه فكلمه فيها ، فقال : " يا nindex.php?page=showalam&ids=111أسامة ! أتشفع في حد من حدود الله ؟ إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ! والذي نفس محمد بيده ، لو أن فاطمة [ ص: 86 ] بنت محمد سرقت لقطعت يدها " .
ففي شريعته - صلى الله عليه وسلم - من اللين والعفو والصفح ومكارم الأخلاق أعظم مما في الإنجيل ، وفيها من الشدة والجهاد ، وإقامة الحدود على الكفار والمنافقين أعظم مما في التوراة ، وهذا هو غاية الكمال ؛ ولهذا قال بعضهم : بعث
موسى بالجلال ، وبعث
عيسى بالجمال ، وبعث
محمد بالكمال .
الوجه الخامس : إن نعم الله على عباده تتضمن نفعهم والإحسان إليهم ، وذلك نوعان :
أحدهما : أن يدفع بذلك مضرتهم ويزيل حاجتهم وفاقتهم ؛ مثل رزقهم الذي لولا هو لماتوا جوعا ، ونصرهم الذي لولا هو لأهلكهم عدوهم ، ومثل هداهم الذي لولا هو لضلوا ضلالا يضرهم في آخرتهم . وهذا النوع من النعمة لا بد لهم منه ، وإن فقدوه حصل لهم ضرر ، إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما فيهما ؛ ولهذا كان في سورة النحل ، وهي
[ ص: 87 ] سورة النعم ، في أولها أصول النعم ، وفي أثنائها كمال النعم .
والنوع الثاني : النعم التي تحصل بها من كمال النعم وعلو الدرجة ما لا يحصل بدونها ، كما أنهم في الآخرة نوعان : أبرار أصحاب يمين ، ومقربون سابقون . ومن خرج عن هذين كان من أصحاب الجحيم .
وإذا كانت النعمة نوعين ، فالخلق كانوا محتاجين إلى إرسال
محمد - صلى الله عليه وسلم - من هذين الوجهين ، وحصل بإرساله هذان النوعان من النعمة ، فإن الناس بدونه كانوا جهالا ضالين أميين ، وأهل الكتاب منهم .
ولم يكن قد بقي من أهل الكتاب - أتباع
المسيح - من هو قائم بالدين الذي يوجب السعادة عند الله في الآخرة ، بل كانوا قد بدلوا وغيروا . وأيضا فلو قدر أنهم لم يبدلوا شيئا ففي إرساله من كمال النعم وتواصلها وعلو الدرجات في السعادة ما لم يكن حاصلا بالكتاب الأول ، فكان إرساله أعظم نعمة أنعم الله بها على أهل الأرض من نوعي النعيم .
[ ص: 88 ] ومن استقرأ أحوال العالم تبين له أن الله لم ينعم على أهل الأرض نعمة أعظم من إنعامه بإرساله - صلى الله عليه وسلم - وإن الذين ردوا رسالته هم من قال الله فيهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=28ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار .
ولهذا وصف بالشكر من قبل هذه النعمة فقال - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=53وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين .
وقال - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=144وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين .
الوجه السادس : أن يقال : قولهم : " إنا نعجب من هؤلاء القوم . . . . " إلى آخر الفصل ، قول جاهل ظالم يستحق أن يقال له : بل
[ ص: 89 ] العجب من هذا العجب هو الواجب ، بل هو الذي لا ينقضي منه العجب ، وإن كل عاقل ليعجب ممن عرف دين
محمد - صلى الله عليه وسلم - وقصده الحق ، ثم اتبع غيره ، ويعلم أنه لا يفعل ذلك إلا مفرط في الجهل والضلال أو مفرط في الظلم واتباع الهوى .
وذلك أن أهل الأرض نوعان : أهل الكتاب وهم
اليهود والنصارى ، وغير أهل الكتاب كالمشركين من العرب
والهند والترك ، وغيرهم
كالمجوس من
الفرس ، وغيرهم
كالصابئة من المتفلسفة ، وغيرهم .
وأهل الكتاب يسلمون لنا أن من سوى أهل الكتاب انتفع بنبوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - منفعة ظاهرة ، وأنه دعا جميع طوائف
[ ص: 90 ] المشركين
والمجوس والصابئين إلى خير مما كانوا عليه ، بل كانوا أحوج الناس إلى رسالته . وأما أهل الكتاب :
فاليهود مسلمون لنا حاجة
النصارى إليه ، وأنه دعاهم إلى خير مما كانوا عليه ،
والنصارى تسلم لنا حاجة
اليهود إليه ، وأنه دعاهم إلى خير مما كانوا عليه .
فما من طائفة من طوائف أهل الأرض إلا وهم مقرون بأن
محمدا - صلى الله عليه وسلم - دعا سائر الطوائف - غيرهم - إلى خير مما كانوا عليه هذه شهادة من جميع أهل الأرض ؛ بأنه دعا أهل الأرض إلى خير مما كانوا عليه . فإن شهادة جميع الطوائف مقبولة على غيرهم ؛ إذ كانوا غير متهمين عليهم ، فإنهم معادون
لمحمد وأمته ، معادون لسائر الطوائف ، وأما شهادتهم لأنفسهم فغير مقبولة فإنهم خصومه وشهادة الخصم على خصمه غير مقبولة .
وقد اعترف
الفلاسفة بأنه لم يقرع العالم ناموس بأفضل من ناموسه ، واعترفوا بأنه أفضل من ناموس
موسى والمسيح عليهما الصلاة والسلام ، بل كان لهم من الطعن في نواميس غيره ما ليس
[ ص: 91 ] هذا موضع ذكره . بخلاف ناموس
محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يطعن فيه أحد منهم ، إلا من كان خارجا عن قانون الفلسفة التي توجب عندهم العدل والكلام بعلم . وأما من التزم منهم الكلام بعلم وعدل فهم متفقون على أن ناموس
محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل ناموس طرق العالم ، فكيف يعجب من مثل هذا الناموس ؟ ! .
الوجه السابع : أن يقال لأهل الكتاب خصوصا ، فيقال
لليهود : أنتم أذل الأمم ، فلو قدر أن ما أنتم عليه دين الله الذي لم يبدل فهو مغلوب مقهور في جميع الأرض ، فهل تعجبون من أن يبعث الله رسولا يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ، فيبعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله حتى يصير دين الله الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه منصورا ظاهرا بالحجة والبيان والسيف والسنان .
ويقال
للنصارى : أنتم لم تخلصوا دين الله الذي بعث به رسله من دين المشركين والمعطلين ، بل أخذتم من أصول المشركين والمعطلين من
الفلاسفة وغيرهم ما أدخلتموه في دينكم ، وليس لكم على أكثر الكفار حجة علمية ولا يد قهرية ، بل للكفار في
[ ص: 92 ] قلوبكم من الرعب والخوف والتعظيم ما أنتم به من أضعف الأمم حجة وأضيقها محجة ، وأبعدها عن العلم والبيان ، وأعجزها عن إقامة الحجة والبرهان ؛ تارة تخافون من الكفار
والفلاسفة وغيرهم من المشركين والمعطلين ، فإما أن توافقوهم على أقوالهم ، وإما أن تخضعوا لهم متواضعين ، وتارة تخافون من سيوف المشركين ، فإما أن تتركوا بعض دينكم لأجلهم ، وإما أن تذلوا لهم خاضعين .
ففيكم من ضعف سلطان الحجة ، وضعف سلطان النصرة ما يظهر به حاجتكم إلى قيام الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسله ، وأنزل به كتبه فالعجب منكم كيف تعدلون عما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة إلى ما فيه شقاؤكم في الدنيا والآخرة . هذا هو العجب ليس العجب ممن آمن بما فيه سعادة الدنيا والآخرة وفي خلافه شقاوة الدنيا والآخرة .
ومثل هذا لا يرد على المسلمين ، فإنه لم يزل ولا يزال فيه طائفة قائمة بالهدى ودين الحق ظاهرة بالحجة والبيان واليد والسنان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وهو خير الوارثين ، كما ثبت في الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=660558لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة " وفي لفظ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=848172لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة حتي يأتي الله بأمره " .
[ ص: 93 ] الوجه الثامن : أن يقال لأهل الكتاب :
لليهود : أنتم لما كنتم متبعين
لموسى - عليه السلام - كنتم على الهدى ودين الحق وكنتم منصورين ، ثم كثرت فيكم الأحداث التي تعرفونها كما قال - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=59قل ياأهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=60قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل .
وقوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=60وعبد الطاغوت معطوف على ( لعنه الله ) أي من لعنه الله وغضب عليهم وعبد هو الطاغوت ، ليس هو داخلا في خبر " جعل " ، حتى يلزم إشكال كما ظنه بعض الناس .
وأهل الكتاب معترفون بأن
اليهود عبدوا الأصنام مرات ، وقتلوا الأنبياء .
[ ص: 94 ] وقال - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=4وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=5فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=6ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=7إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=8عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا .
وهم معترفون بأن
بيت المقدس خرب مرتين .
[ ص: 95 ] فالخراب الأول لما جاء "
بختنصر " وسباهم إلى
بابل وبقي خرابا سبعين سنة ، والخراب الثاني بعد
المسيح بنحو سبعين سنة ، وقد قيل : هذا تأويل قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=78لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم .
فبعد الخراب الثاني تفرقوا في الأرض ولم يبق لهم ملك . وبين الخرابين كانوا تحت قهر الملوك الكفار ، وبعث
المسيح - عليه الصلاة والسلام - وهم كذلك .
ويقال
للنصارى : أنتم ما زلتم مقهورين مغلوبين مبددين في الأرض ، حتى ظهر
قسطنطين وأقام دين النصرانية بالسيف ، وقتل من خالفه من المشركين
واليهود . لكن أظهر دينا مبدلا مغيرا ليس هو دين
المسيح - عليه السلام - ومع هذا فكانت أرض
العراق وفارس كفارا - المجوس وغيرهم - مجوسا ومشركين . وكانوا في بعض الأزمنة يقهرون
النصارى على بلادهم ، وأما أرض المشرق والمغرب ففيهما من أنواع المشركين أمم ، وكان الشرك والكفر ظاهرا في أرض
اليمن والحجاز والشام والعراق ، فلما بعث الله
محمدا - صلى الله عليه
[ ص: 96 ] وسلم - أظهر به توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ظهورا لم يعرف في أمة من الأمم ، ولم يحصل مثله لنبي من الأنبياء ، وأظهر به من تصديق الكتب والرسل والتوراة والإنجيل والزبور ،
وموسى وعيسى وداود وسليمان وغيرهم من الرسل ما لم يكن ظاهرا لا عند أهل الكتاب ولا غيرهم ، فأهل الكتاب وإن كانوا خيرا من غيرهم فلم يكونوا قائمين بما يجب من الإيمان بالله ورسله ولا باليوم الآخر ولا شرائع دينه ، ولا كانوا قاهرين لأكثر الكفار ، ولا كانوا منصورين عليهم ولهذا قال : - تعالى - . :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=29قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب . .
nindex.php?page=treesubj&link=29435_29434_32426أما اليهود ففيهم من التنقص من الأنبياء في سبهم ، وذكر عيوب نزههم الله عنها ، ما هو معروف . حتى إن منهم من يقول أن
سليمان كان ساحرا ،
وداود كان منجما لم يكن نبيا ، إلى أمثال ذلك .
[ ص: 97 ] مما يطول وصفه . ففيهم من الكفر بالأنبياء ، من جنس ما كان في سلفهم الخبيث . .
وأما
النصارى - فمع غلوهم في
المسيح وأتباعه - يستخفون بغيره فتارة يجعلون الحواريين مثل
إبراهيم وموسى أو أفضل منهم ، وتارة يقولون - كما قال
اليهود - : " إن
سليمان لم يكن نبيا بل سقط من النبوة " ، وتارة يجعلون ما خاطب الله به
داود وغيره من الأنبياء إنما أريد به
المسيح ، مع أن اللفظ لا يدل على ذلك ، بل يتأولون كتب الله بمجرد هوى أنفسهم ، وتارة يقولون : إن الواحد منهم إذا أطاع الله بما يزعمون أنه طاعة ، صار مثل واحد من الأنبياء ، ويسوغون لمثل هؤلاء أن يغيروا شرائع الأنبياء ويضعوا دينا ابتدعوه
ومحمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته أقاموا توحيد الله الذي كان عليه
إبراهيم وموسى وسائر الرسل وآمنوا بكل كتاب أنزله الله وكل رسول بعثه الله ، وأقاموا دين الرحمن إقامة لم يقمها أحد من الأمم . فعامة أهل الأرض مع
محمد - صلى الله عليه وسلم - : إما مؤمن به باطنا وظاهرا - وهم أولياء الله المتقون وحزبه المفلحون وجنده الغالبون - وإما مسلمون له في الظاهر تقية وخوفا من أمته ، وهم المنافقون .
[ ص: 98 ] وإما مسالمون له بالعهد والذمة والهدنة - وهم أهل الذمة والهدنة في جميع الأرض - وإما خائفون من أمته .
وحيث كان الواحد والطائفة من أمته متمسكا بدينه ، كان نوره ظاهرا وبرهانه باهرا معظما منصورا ، يعرف فضله على كل من سواه .
وهذا أمر يعرفه الناس في أرض الكفار من المشركين وأهل الكتاب ؛ لما خص الله به
محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأمته من الهدى ودين الحق . وقد أظهروا دين الرب في مشارق الأرض ومغاربها بالقول والعمل . فهل يقول من عنده علم وعدل : إنه لا فائدة في إرسال
محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه يستغنى بما عند أهل الكتاب عن رسالته ؟ !
الوجه التاسع : أن يقال : هم معترفون بانتفاع المشركين به غاية الانتفاع ، فإنه أقام توحيد الله ودينه فيهم ، وأنه عظم
المسيح . ورد على
اليهود قولهم فيه وأهانهم وحينئذ فهذا من أعظم الفوائد وأجل المقاصد وأعظم نعم الله على عباده ، ثم هو - مع ذلك - قال : إن الله أرسله وأمره بذلك .
[ ص: 99 ] فإن كان كاذبا فالكذاب المفتري على الله من شر الكفار ، ومن يكون كذلك لا يحصل منه هذا الخير العظيم ، الذي ما حصل مثله من أحد من الأنبياء ، فإنه أزال دين المشركين ، ودين
المجوس ، وقمع
اليهود وكل واحدة من هذه الثلاث لم يقدر عليها أحد قبله من الأنبياء والمرسلين .
وإن كان صادقا ؛ فهو قد أخبر أنه رسول الله إلى
النصارى وغيرهم من الأمم ، وأخبر عن الله بكفر كل من لم يؤمن به . وهذا الوجه ممن يخاطب به كل صنف ، فيقال لكل صنف من الأمم : أنتم معترفون بأن من سواكم إذا اتبعوا دين
محمد - صلى الله عليه وسلم - كان خيرا لهم مما هم عليه ؛
فاليهود معترفة بأن
النصارى إذا اتبعوه كان خيرا لهم من دين
النصارى ،
والنصارى معترفون بأن
اليهود إذا اتبعوه كان خيرا لهم من دين
اليهود ، وأهل الكتاب
اليهود والنصارى معترفون بأن من سواهم إذا اتبعوا
محمدا كان خيرا لهم مما هم عليه .
فالمجوس والمشركون من العرب ،
والسودان والترك وأصناف
[ ص: 100 ] الخزر والصقالبة ، إذا اتبعوه كان خيرا لهم مما هم عليه وسائر أصناف الكفار معترفون بأن أتباعه خير من غيرهم . ومن ليس من أهل الكتاب - عامتهم - معترفون بأن دين المسلمين خير من دين
اليهود والنصارى . وحينئذ فيقال : من جاء بهذا الدين الذي يفضله جميع أهل الأرض على غيره يمتنع أن يكون من أكفر الناس وأحقهم بغضب الله وعقابه . وكل من قال : إنه رسول الله ؛ فإن كان صادقا كان من خير أهل الأرض وأحقهم برضوان الله وثوابه ، وإن كان كاذبا كان من شر أهل الأرض وأحقهم بغضب الله وعقابه . ومن حصل منه هذا الخير والعلم والهدى وما فيه صلاح الدنيا والآخرة أعظم مما حصل من جميع الخلق يمتنع أن يكون من أكفر الناس المستحقين لغضب الله وعقابه ، فوجب أن يكون من خير أهل الأرض ، بل هو خير أهل الأرض وأحقهم برضوان الله وثوابه .
وَلِهَذَا لَمَّا أُمِرُوا بِالْجِهَادِ نَكَلُوا عَنْهُ وَقَالَ لَهُمْ
مُوسَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=21يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=22قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=23قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=24قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ .
[ ص: 82 ] وَأَمَّا أَصْحَابُ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ قَائِلُهُمْ يَوْمَ
بَدْرٍ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=654243وَاللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=24فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ .
" لَكِنْ نُقَاتِلُ أَمَامَكَ وَوَرَاءَكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ يَسَارِكَ . وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ ، وَلَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بِرْكِ الْغِمَادِ لَسِرْنَا مَعَك " .
[ ص: 83 ] وَكَانَ الْكَلَامُ قَرِيبًا مِنْ (
بَدْرٍ ) وَالْبَحْرُ مِنْ جِهَةِ الْغَرْبِ وَ (
بِرْكُ الْغِمَادِ ) مَكَانٌ مِنْ يَمَانِيِّ
مَكَّةَ ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ
مَكَّةَ عِدَّةُ لَيَالٍ ، وَالْكُفَّارُ كَانُوا - إِذْ ذَاكَ -
بِمَكَّةَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ نَاحِيَةِ
الْمَدِينَةِ شَامِيِّ
مَكَّةَ ،
فَمَكَّةُ جَنُوبُهُمْ وَالْبَحْرُ غَرْبُهُمْ . تَقُولُ : لَوْ طَلَبْتَ أَنْ نَدْخُلَ بَلَدَ الْعَدُوِّ وَنَذْهَبَ إِلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ لَفَعَلْنَاهُ . قَالُوا : فَلَمَّا نَصَرَ اللَّهُ
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَظْهَرَهُمْ ، ظَهَرَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ بَعْدَ ذَلِكَ وَتَجَبَّرُوا ، وَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَصَارُوا شَبَهًا
بِآلِ فِرْعَوْنَ ، فَبَعَثَ اللَّهُ
الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِاللِّينِ وَالصَّفْحِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْمُسِيءِ وَاحْتِمَالِ أَذَاهُ ؛ لِيُلَيِّنَ أَخْلَاقَهُمْ وَيُزِيلَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَسْوَةِ .
فَأَفْرَطَ هَؤُلَاءِ فِي اللِّينِ حَتَّى تَرَكُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَتَرَكُوا الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدْلِ وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ ، وَتَرَهَّبَ عُبَّادُهُمْ مُنْفَرِدِينَ ، مَعَ أَنَّ فِي مُلُوكِ
النَّصَارَى مِنَ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَسْوَةِ وَالْحُكْمِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقٍّ مِمَّا يَأْمُرُهُمْ بِهِ عُلَمَاؤُهُمْ وَعُبَّادُهُمْ وَمِمَّا لَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِهِ مَا شَارَكُوا فِيهِ
الْيَهُودَ .
nindex.php?page=treesubj&link=28641_28643_30231فَبَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ الْعَادِلَةِ ، وَجَعَلَ أُمَّتَهُ عَدْلًا خِيَارًا لَا يَنْحَرِفُونَ إِلَى هَذَا الطَّرَفِ وَلَا إِلَى هَذَا الطَّرَفِ ، بَلْ يَشْتَدُّونَ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ وَيَلِينُونَ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَيَسْتَعْمِلُونَ الْعَفْوَ وَالصَّفْحَ فِيمَا كَانَ لِنُفُوسِهِمْ ، وَيَسْتَعْمِلُونَ الِانْتِصَارَ وَالْعُقُوبَةَ فِيمَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ .
[ ص: 84 ] وَهَذَا كَانَ خُلُقَ نَبِيِّهِمْ ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=25عَائِشَةَ قَالَتْ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=706045مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ بِيَدِهِ خَادِمًا وَلَا امْرَأَةً وَلَا دَابَّةً وَلَا شَيْئًا قَطُّ ، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَانْتَقَمَ لِنَفْسِهِ ، إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ مَحَارِمُ اللَّهِ ، فَإِذَا انْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلَّهِ " .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=9أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=693406خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشْرَ سِنِينَ ، فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ ، وَلَا قَالَ لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ لِمَ فَعَلْتَهُ ؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ : لِمَ لَا فَعَلْتَهُ ؟ nindex.php?page=hadith&LINKID=693783وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِهِ [ ص: 85 ] إِذَا عَتَبُونِي عَلَى شَيْءٍ يَقُولُ : " دَعُوهُ ، فَلَوْ قُدِّرَ شَيْءٌ لَكَانَ " ، هَذَا مَعَ قَوْلِهِ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ -
nindex.php?page=hadith&LINKID=704979لَمَّا سَرَقَتِ امْرَأَةٌ كَانَتْ مِنْ أَشْرَفِ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهَا ، فَقَالُوا : مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؟ فَقَالُوا : مَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا nindex.php?page=showalam&ids=111أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ ؟ فَكَلَّمُوهُ فَكَلَّمَهُ فِيهَا ، فَقَالَ : " يَا nindex.php?page=showalam&ids=111أُسَامَةُ ! أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟ إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ ! وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ [ ص: 86 ] بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا " .
فَفِي شَرِيعَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ اللِّينِ وَالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي الْإِنْجِيلِ ، وَفِيهَا مِنَ الشِّدَّةِ وَالْجِهَادِ ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ أَعْظَمُ مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ ، وَهَذَا هُوَ غَايَةُ الْكَمَالِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ : بُعِثَ
مُوسَى بِالْجَلَالِ ، وَبُعِثَ
عِيسَى بِالْجَمَالِ ، وَبُعِثَ
مُحَمَّدٌ بِالْكَمَالِ .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ : إِنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ تَتَضَمَّنُ نَفْعَهُمْ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِمْ ، وَذَلِكَ نَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَدْفَعَ بِذَلِكَ مَضَرَّتَهُمْ وَيُزِيلَ حَاجَتَهُمْ وَفَاقَتَهُمْ ؛ مِثْلَ رِزْقِهِمُ الَّذِي لَوْلَا هُوَ لَمَاتُوا جُوعًا ، وَنَصْرِهِمُ الَّذِي لَوْلَا هُوَ لَأَهْلَكَهُمْ عَدُوُّهُمْ ، وَمِثْلَ هُدَاهُمُ الَّذِي لَوْلَا هُوَ لَضَلُّوا ضَلَالًا يَضُرُّهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ . وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ النِّعْمَةِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ ، وَإِنْ فَقَدُوهُ حَصَلَ لَهُمْ ضَرَرٌ ، إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ وَإِمَّا فِيهِمَا ؛ وَلِهَذَا كَانَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ ، وَهِيَ
[ ص: 87 ] سُورَةُ النِّعَمِ ، فِي أَوَّلِهَا أُصُولُ النِّعَمِ ، وَفِي أَثْنَائِهَا كَمَالُ النِّعَمِ .
وَالنَّوْعُ الثَّانِي : النِّعَمُ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَا مِنْ كَمَالِ النِّعَمِ وَعُلُوِّ الدَّرَجَةِ مَا لَا يَحْصُلُ بِدُونِهَا ، كَمَا أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ نَوْعَانِ : أَبْرَارٌ أَصْحَابُ يَمِينٍ ، وَمُقَرَّبُونَ سَابِقُونَ . وَمَنْ خَرَجَ عَنْ هَذَيْنِ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ .
وَإِذَا كَانَتِ النِّعْمَةُ نَوْعَيْنِ ، فَالْخَلْقُ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى إِرْسَالِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، وَحَصَلَ بِإِرْسَالِهِ هَذَانِ النَّوْعَانِ مِنَ النِّعْمَةِ ، فَإِنَّ النَّاسَ بِدُونِهِ كَانُوا جُهَّالًا ضَالِّينَ أُمِّيِّينَ ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ مِنْهُمْ .
وَلَمْ يَكُنْ قَدْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ - أَتْبَاعِ
الْمَسِيحِ - مَنْ هُوَ قَائِمٌ بِالدَّيْنِ الَّذِي يُوجِبُ السَّعَادَةَ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ ، بَلْ كَانُوا قَدْ بَدَّلُوا وَغَيَّرُوا . وَأَيْضًا فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ لَمْ يُبَدِّلُوا شَيْئًا فَفِي إِرْسَالِهِ مِنْ كَمَالِ النِّعَمِ وَتَوَاصُلِهَا وَعُلُوِّ الدَّرَجَاتِ فِي السَّعَادَةِ مَا لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ ، فَكَانَ إِرْسَالُهُ أَعْظَمَ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ نَوْعَيِ النَّعِيمِ .
[ ص: 88 ] وَمَنِ اسْتَقْرَأَ أَحْوَالَ الْعَالَمِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْعِمْ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ نِعْمَةً أَعْظَمَ مِنْ إِنْعَامِهِ بِإِرْسَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّ الَّذِينَ رَدُّوا رِسَالَتَهُ هُمْ مَنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=28أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ .
وَلِهَذَا وَصَفَ بِالشُّكْرِ مَنْ قَبِلَ هَذِهِ النِّعْمَةَ فَقَالَ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=53وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ .
وَقَالَ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=144وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ .
الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنْ يُقَالَ : قَوْلُهُمْ : " إِنَّا نَعْجَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ . . . . " إِلَى آخِرِ الْفَصْلِ ، قَوْلُ جَاهِلٍ ظَالِمٍ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقَالَ لَهُ : بَلِ
[ ص: 89 ] الْعَجَبُ مِنْ هَذَا الْعَجَبِ هُوَ الْوَاجِبُ ، بَلْ هُوَ الَّذِي لَا يَنْقَضِي مِنْهُ الْعَجَبُ ، وَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ لَيَعْجَبُ مِمَّنْ عَرَفَ دِينَ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَصْدُهُ الْحَقَّ ، ثُمَّ اتَّبَعَ غَيْرَهُ ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا مُفْرِطٌ فِي الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ أَوْ مُفْرِطٌ فِي الظُّلْمِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى .
وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْأَرْضِ نَوْعَانِ : أَهْلُ الْكِتَابِ وَهُمُ
الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ، وَغَيْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ كَالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ
وَالْهِنْدِ وَالتُّرْكِ ، وَغَيْرِهِمْ
كَالْمَجُوسِ مِنَ
الْفُرْسِ ، وَغَيْرِهِمْ
كَالصَّابِئَةِ مِنَ الْمُتَفَلْسِفَةِ ، وَغَيْرِهِمْ .
وَأَهْلُ الْكِتَابِ يُسَلِّمُونَ لَنَا أَنَّ مَنْ سِوَى أَهْلِ الْكِتَابِ انْتَفَعَ بِنُبُوَّةِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْفَعَةً ظَاهِرَةً ، وَأَنَّهُ دَعَا جَمِيعَ طَوَائِفِ
[ ص: 90 ] الْمُشْرِكِينَ
وَالْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ ، بَلْ كَانُوا أَحْوَجَ النَّاسِ إِلَى رِسَالَتِهِ . وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ :
فَالْيَهُودُ مُسَلِّمُونَ لَنَا حَاجَةَ
النَّصَارَى إِلَيْهِ ، وَأَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ ،
وَالنَّصَارَى تُسَلِّمُ لَنَا حَاجَةَ
الْيَهُودِ إِلَيْهِ ، وَأَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ .
فَمَا مِنْ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا وَهُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّ
مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا سَائِرَ الطَّوَائِفِ - غَيْرَهُمْ - إِلَى خَيْرٍ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ هَذِهِ شَهَادَةٌ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ ؛ بِأَنَّهُ دَعَا أَهْلَ الْأَرْضِ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ . فَإِنَّ شَهَادَةَ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ مَقْبُولَةٌ عَلَى غَيْرِهِمْ ؛ إِذْ كَانُوا غَيْرَ مُتَّهَمِينَ عَلَيْهِمْ ، فَإِنَّهُمْ مُعَادُونَ
لِمُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ ، مُعَادُونَ لِسَائِرِ الطَّوَائِفِ ، وَأَمَّا شَهَادَتُهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ فَغَيْرُ مَقْبُولَةٍ فَإِنَّهُمْ خُصُومُهُ وَشَهَادَةُ الْخَصْمِ عَلَى خَصْمِهِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ .
وَقَدِ اعْتَرَفَ
الْفَلَاسِفَةُ بِأَنَّهُ لَمْ يَقْرَعِ الْعَالِمَ نَامُوسٌ بِأَفْضَلَ مِنْ نَامُوسِهِ ، وَاعْتَرَفُوا بِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ نَامُوسِ
مُوسَى وَالْمَسِيحِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، بَلْ كَانَ لَهُمْ مِنَ الطَّعْنِ فِي نَوَامِيسِ غَيْرِهِ مَا لَيْسَ
[ ص: 91 ] هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ . بِخِلَافِ نَامُوسِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ لَمْ يَطْعَنْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ ، إِلَّا مَنْ كَانَ خَارِجًا عَنْ قَانُونِ الْفَلْسَفَةِ الَّتِي تُوجِبُ عِنْدَهُمُ الْعَدْلَ وَالْكَلَامَ بِعِلْمٍ . وَأَمَّا مَنِ الْتَزَمَ مِنْهُمُ الْكَلَامَ بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ فَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ نَامُوسَ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ نَامُوسٍ طَرَقَ الْعَالَمَ ، فَكَيْفَ يُعْجَبُ مِنْ مِثْلِ هَذَا النَّامُوسِ ؟ ! .
الْوَجْهُ السَّابِعُ : أَنْ يُقَالَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ خُصُوصًا ، فَيُقَالُ
لِلْيَهُودِ : أَنْتُمْ أَذَلُّ الْأُمَمِ ، فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَمْ يُبَدَّلْ فَهُوَ مَغْلُوبٌ مَقْهُورٌ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ ، فَهَلْ تَعْجَبُونَ مِنْ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ رَسُولًا يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ، فَيَبْعَثُهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ حَتَّى يَصِيرَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ مَنْصُورًا ظَاهِرًا بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ وَالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ .
وَيُقَالُ
لِلنَّصَارَى : أَنْتُمْ لَمْ تُخَلِّصُوا دِينَ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ مِنْ دِينِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُعَطِّلِينَ ، بَلْ أَخَذْتُمْ مِنْ أُصُولِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُعَطِّلِينَ مِنَ
الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ مَا أَدْخَلْتُمُوهُ فِي دِينِكُمْ ، وَلَيْسَ لَكُمْ عَلَى أَكْثَرِ الْكُفَّارِ حُجَّةٌ عِلْمِيَّةٌ وَلَا يَدٌ قَهْرِيَّةٌ ، بَلْ لِلْكُفَّارِ فِي
[ ص: 92 ] قُلُوبِكُمْ مِنَ الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ وَالتَّعْظِيمِ مَا أَنْتُمْ بِهِ مِنْ أَضْعَفِ الْأُمَمِ حُجَّةً وَأَضْيَقِهَا مَحَجَّةً ، وَأَبْعَدِهَا عَنِ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ ، وَأَعْجَزِهَا عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ ؛ تَارَةً تَخَافُونَ مِنَ الْكُفَّارِ
وَالْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُعَطِّلِينَ ، فَإِمَّا أَنْ تُوَافِقُوهُمْ عَلَى أَقْوَالِهِمْ ، وَإِمَّا أَنْ تَخْضَعُوا لَهُمْ مُتَوَاضِعِينَ ، وَتَارَةً تَخَافُونَ مِنْ سُيُوفِ الْمُشْرِكِينَ ، فَإِمَّا أَنْ تَتْرُكُوا بَعْضَ دِينِكُمْ لِأَجْلِهِمْ ، وَإِمَّا أَنْ تَذِلُّوا لَهُمْ خَاضِعِينَ .
فَفِيكُمْ مِنْ ضَعْفِ سُلْطَانِ الْحُجَّةِ ، وَضَعْفِ سُلْطَانِ النُّصْرَةِ مَا يَظْهَرُ بِهِ حَاجَتُكُمْ إِلَى قِيَامِ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ فَالْعَجَبُ مِنْكُمْ كَيْفَ تَعْدِلُونَ عَمَّا فِيهِ سَعَادَتُكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَى مَا فِيهِ شَقَاؤُكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . هَذَا هُوَ الْعَجَبُ لَيْسَ الْعَجَبُ مِمَّنْ آمَنَ بِمَا فِيهِ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَفِي خِلَافِهِ شَقَاوَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
وَمِثْلُ هَذَا لَا يَرِدُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ فِيهِ طَائِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ظَاهِرَةٌ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ وَالْيَدِ وَالسِّنَانِ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللَّهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا ، وَهُوَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=660558لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ " وَفِي لَفْظٍ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=848172لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرَةً حَتْي يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ " .
[ ص: 93 ] الْوَجْهُ الثَّامِنُ : أَنْ يُقَالَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ :
لِلْيَهُودِ : أَنْتُمْ لَمَّا كُنْتُمْ مُتَّبِعِينَ
لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كُنْتُمْ عَلَى الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ مَنْصُورِينَ ، ثُمَّ كَثُرَتْ فِيكُمُ الْأَحْدَاثُ الَّتِي تَعْرِفُونَهَا كَمَا قَالَ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=59قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=60قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ .
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=60وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ مَعْطُوفٌ عَلَى ( لَعَنَهُ اللَّهُ ) أَيْ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِمْ وَعَبَدَ هُوَ الطَّاغُوتَ ، لَيْسَ هُوَ دَاخِلًا فِي خَبَرِ " جَعَلَ " ، حَتَّى يَلْزَمَ إِشْكَالٌ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ النَّاسِ .
وَأَهْلُ الْكِتَابِ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ
الْيَهُودَ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ مَرَّاتٍ ، وَقَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ .
[ ص: 94 ] وَقَالَ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=4وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=5فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=6ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=7إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=8عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا .
وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ
بَيْتَ الْمَقْدِسِ خُرِّبَ مَرَّتَيْنِ .
[ ص: 95 ] فَالْخَرَابُ الْأَوَّلُ لَمَّا جَاءَ "
بُخَتُنَصَّرُ " وَسَبَاهُمْ إِلَى
بَابِلَ وَبَقِيَ خَرَابًا سَبْعِينَ سَنَةً ، وَالْخَرَابُ الثَّانِي بَعْدَ
الْمَسِيحِ بِنَحْوِ سَبْعِينَ سَنَةً ، وَقَدْ قِيلَ : هَذَا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=78لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ .
فَبَعْدَ الْخَرَابِ الثَّانِي تَفَرَّقُوا فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مُلْكٌ . وَبَيْنَ الْخَرَابَيْنِ كَانُوا تَحْتَ قَهْرِ الْمُلُوكِ الْكُفَّارِ ، وَبُعِثَ
الْمَسِيحُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُمْ كَذَلِكَ .
وَيُقَالُ
لِلنَّصَارَى : أَنْتُمْ مَا زِلْتُمْ مَقْهُورِينَ مَغْلُوبِينَ مُبَدَّدِينَ فِي الْأَرْضِ ، حَتَّى ظَهَرَ
قُسْطَنْطِينُ وَأَقَامَ دِينَ النَّصْرَانِيَّةِ بِالسَّيْفِ ، وَقَتَلَ مَنْ خَالَفَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
وَالْيَهُودِ . لَكِنْ أَظْهَرَ دِينًا مُبَدَّلًا مُغَيَّرًا لَيْسَ هُوَ دِينَ
الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَعَ هَذَا فَكَانَتْ أَرْضُ
الْعِرَاقِ وَفَارِسَ كُفَّارًا - الْمَجُوسُ وَغَيْرُهُمْ - مَجُوسًا وَمُشْرِكِينَ . وَكَانُوا فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ يَقْهَرُونَ
النَّصَارَى عَلَى بِلَادِهِمْ ، وَأَمَّا أَرْضُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَفِيهِمَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمُشْرِكِينَ أُمَمٌ ، وَكَانَ الشِّرْكُ وَالْكُفْرُ ظَاهِرًا فِي أَرْضِ
الْيَمَنِ وَالْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ
مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
[ ص: 96 ] وَسَلَّمَ - أَظْهَرَ بِهِ تَوْحِيدَ اللَّهِ وَعِبَادَتَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ظُهُورًا لَمْ يُعْرَفْ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ ، وَلَمْ يَحْصُلْ مِثْلُهُ لِنَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ، وَأَظْهَرَ بِهِ مِنْ تَصْدِيقِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ ،
وَمُوسَى وَعِيسَى وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الرُّسُلِ مَا لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا لَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا غَيْرِهِمْ ، فَأَهْلُ الْكِتَابِ وَإِنْ كَانُوا خَيْرًا مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَمْ يَكُونُوا قَائِمِينَ بِمَا يَجِبُ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا شَرَائِعِ دِينِهِ ، وَلَا كَانُوا قَاهِرِينَ لِأَكْثَرِ الْكُفَّارِ ، وَلَا كَانُوا مَنْصُورِينَ عَلَيْهِمْ وَلِهَذَا قَالَ : - تَعَالَى - . :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=29قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ . .
nindex.php?page=treesubj&link=29435_29434_32426أَمَّا الْيَهُودُ فَفِيهِمْ مِنَ التَّنَقُّصِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي سَبِّهِمْ ، وَذِكْرِ عُيُوبٍ نَزَّهَهُمُ اللَّهُ عَنْهَا ، مَا هُوَ مَعْرُوفٌ . حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَنَّ
سُلَيْمَانَ كَانَ سَاحِرًا ،
وَدَاوُدَ كَانَ مُنَجِّمًا لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا ، إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ .
[ ص: 97 ] مِمَّا يَطُولُ وَصْفُهُ . فَفِيهِمْ مِنَ الْكُفْرِ بِالْأَنْبِيَاءِ ، مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ فِي سَلَفِهِمُ الْخَبِيثِ . .
وَأَمَّا
النَّصَارَى - فَمَعَ غُلُوِّهِمْ فِي
الْمَسِيحِ وَأَتْبَاعِهِ - يَسْتَخِفُّونَ بِغَيْرِهِ فَتَارَةً يَجْعَلُونَ الْحَوَارِيِّينَ مِثْلَ
إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُمْ ، وَتَارَةً يَقُولُونَ - كَمَا قَالَ
الْيَهُودُ - : " إِنَّ
سُلَيْمَانَ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا بَلْ سَقَطَ مِنَ النُّبُوَّةِ " ، وَتَارَةً يَجْعَلُونَ مَا خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ
دَاوُدَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ
الْمَسِيحُ ، مَعَ أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، بَلْ يَتَأَوَّلُونَ كُتُبَ اللَّهِ بِمُجَرَّدِ هَوَى أَنْفُسِهِمْ ، وَتَارَةً يَقُولُونَ : إِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ إِذَا أَطَاعَ اللَّهَ بِمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ طَاعَةٌ ، صَارَ مِثْلَ وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ، وَيُسَوِّغُونَ لِمِثْلِ هَؤُلَاءِ أَنْ يُغَيِّرُوا شَرَائِعَ الْأَنْبِيَاءِ وَيَضَعُوا دِينًا ابْتَدَعُوهُ
وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمَّتُهُ أَقَامُوا تَوْحِيدَ اللَّهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ
إِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَسَائِرُ الرُّسُلِ وَآمَنُوا بِكُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَكُلِّ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ ، وَأَقَامُوا دِينَ الرَّحْمَنِ إِقَامَةً لَمْ يُقِمْهَا أَحَدٌ مِنَ الْأُمَمِ . فَعَامَّةُ أَهْلِ الْأَرْضِ مَعَ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِمَّا مُؤْمِنٌ بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا - وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ وَحِزْبُهُ الْمُفْلِحُونَ وَجُنْدُهُ الْغَالِبُونَ - وَإِمَّا مُسْلِمُونَ لَهُ فِي الظَّاهِرِ تَقِيَّةً وَخَوْفًا مِنْ أُمَّتِهِ ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ .
[ ص: 98 ] وَإِمَّا مُسَالِمُونَ لَهُ بِالْعَهْدِ وَالذِّمَّةِ وَالْهُدْنَةِ - وَهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ وَالْهُدْنَةِ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ - وَإِمَّا خَائِفُونَ مِنْ أُمَّتِهِ .
وَحَيْثُ كَانَ الْوَاحِدُ وَالطَّائِفَةُ مِنْ أُمَّتِهِ مُتَمَسِّكًا بِدِينِهِ ، كَانَ نُورُهُ ظَاهِرًا وَبُرْهَانُهُ بَاهِرًا مُعَظَّمًا مَنْصُورًا ، يُعْرَفُ فَضْلُهُ عَلَى كُلِّ مَنْ سِوَاهُ .
وَهَذَا أَمْرٌ يَعْرِفُهُ النَّاسُ فِي أَرْضِ الْكُفَّارِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ ؛ لِمَا خَصَّ اللَّهُ بِهِ
مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمَّتَهُ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ . وَقَدْ أَظْهَرُوا دِينَ الرَّبِّ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ . فَهَلْ يَقُولُ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ وَعَدْلٌ : إِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إِرْسَالِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهُ يُسْتَغْنَى بِمَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ رِسَالَتِهِ ؟ !
الْوَجْهُ التَّاسِعُ : أَنْ يُقَالَ : هُمْ مُعْتَرِفُونَ بِانْتِفَاعِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ غَايَةَ الِانْتِفَاعِ ، فَإِنَّهُ أَقَامَ تَوْحِيدَ اللَّهِ وَدِينَهُ فِيهِمْ ، وَأَنَّهُ عَظَّمَ
الْمَسِيحَ . وَرَدَّ عَلَى
الْيَهُودِ قَوْلَهُمْ فِيهِ وَأَهَانَهُمْ وَحِينَئِذٍ فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْفَوَائِدِ وَأَجَلِّ الْمَقَاصِدِ وَأَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ ، ثُمَّ هُوَ - مَعَ ذَلِكَ - قَالَ : إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ وَأَمَرَهُ بِذَلِكَ .
[ ص: 99 ] فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَالْكَذَّابُ الْمُفْتَرِي عَلَى اللَّهِ مِنْ شَرِّ الْكُفَّارِ ، وَمَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ هَذَا الْخَيْرُ الْعَظِيمُ ، الَّذِي مَا حَصَلَ مِثْلُهُ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ، فَإِنَّهُ أَزَالَ دِينَ الْمُشْرِكِينَ ، وَدِينَ
الْمَجُوسِ ، وَقَمَعَ
الْيَهُودَ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا أَحَدٌ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ .
وَإِنْ كَانَ صَادِقًا ؛ فَهُوَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى
النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ ، وَأَخْبَرَ عَنِ اللَّهِ بِكُفْرِ كُلِّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ . وَهَذَا الْوَجْهُ مِمَّنْ يُخَاطَبُ بِهِ كُلُّ صِنْفٍ ، فَيُقَالُ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْأُمَمِ : أَنْتُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ مَنْ سِوَاكُمْ إِذَا اتَّبَعُوا دِينَ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ ؛
فَالْيَهُودُ مُعْتَرِفَةٌ بِأَنَّ
النَّصَارَى إِذَا اتَّبَعُوهُ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ دِينِ
النَّصَارَى ،
وَالنَّصَارَى مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ
الْيَهُودَ إِذَا اتَّبَعُوهُ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ دِينِ
الْيَهُودِ ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ
الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ مَنْ سِوَاهُمْ إِذَا اتَّبَعُوا
مُحَمَّدًا كَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ .
فَالْمَجُوسُ وَالْمُشْرِكُونَ مِنَ الْعَرَبِ ،
وَالسُّودَانِ وَالتُّرْكِ وَأَصْنَافِ
[ ص: 100 ] الْخَزَرِ وَالصَّقَالِبَةِ ، إِذَا اتَّبَعُوهُ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ وَسَائِرُ أَصْنَافِ الْكُفَّارِ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ أَتْبَاعَهُ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِمْ . وَمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ - عَامَّتُهُمْ - مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ دِينَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ دِينِ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ : مَنْ جَاءَ بِهَذَا الدِّينِ الَّذِي يُفَضِّلُهُ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَى غَيْرِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ وَأَحَقِّهِمْ بِغَضَبِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ . وَكُلُّ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ؛ فَإِنْ كَانَ صَادِقًا كَانَ مِنْ خَيْرِ أَهْلِ الْأَرْضِ وَأَحَقِّهِمْ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا كَانَ مِنْ شَرِّ أَهْلِ الْأَرْضِ وَأَحَقِّهِمْ بِغَضَبِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ . وَمَنْ حَصَلَ مِنْهُ هَذَا الْخَيْرُ وَالْعِلْمُ وَالْهُدَى وَمَا فِيهِ صَلَاحُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَعْظَمُ مِمَّا حَصَلَ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِغَضَبِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَيْرِ أَهْلِ الْأَرْضِ ، بَلْ هُوَ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ وَأَحَقُّهُمْ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ .