الوجه العاشر : إن الله - سبحانه وتعالى - كانت سنته قبل إنزال
[ ص: 101 ] التوراة ، إذا كذب نبي من الأنبياء ينتقم الله من أعدائه بعذاب من عنده ، كما أهلك
قوم نوح بالغرق ،
وقوم هود بالريح الصرصر ،
وقوم صالح بالصيحة ،
وقوم شعيب بالظلة ،
وقوم لوط بالحاصب ،
وقوم فرعون بالغرق قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=43ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون .
فلما أنزل التوراة ، أمر أهل الكتاب بالجهاد ، فمنهم من نكل ومنهم من أطاع .
وصار المقصود بالرسالة لا يحصل إلا بالعلم والقدرة كما قال تعالى :
[ ص: 102 ] nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=28هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا .
nindex.php?page=treesubj&link=34095_29434فقول هؤلاء : " إن التوراة جاءت بالعدل ، والإنجيل بالفضل فلا حاجة إلى غيرهما ، لو قدر أنه حق . إنما يستقيم إذا كان الكتابان لم يبدلا ، بل كانا متبعين علما وعملا ، وكان أهلهما مع ذلك منصورين مؤيدين على من خالفهم ، فكيف وكل منهما قد بدل كثير مما فيه ، وأهلهما غير منصورين على سائر الكفار ، بل الكفار ظاهرون عليهم في أكثر الأرض ؛ كأرض
اليمن والحجاز وسائر
جزيرة العرب وأرض
العراق وخراسان والمغرب وأرض
الهند والسند والترك ، وكان بأيدي أهل الكتاب
الشام ومصر وغير ذلك ، ومع هذا فكانت
الفرس قد غلبتهم على ذلك ، ، ثم إن الله أظهر
النصارى عليهم ، فكان ظهورهم توطئة وتمهيدا لإظهار دين الإسلام .
فإن
الفرس المجوس لما غلبوا الروم ساء ذلك النبي
[ ص: 103 ] - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين به ، وفرح بذلك مشركو العرب وكانوا أكثر من المؤمنين ؛ لأن أهل الكتاب أقرب إلى المؤمنين من
المجوس ،
والمجوس أقرب إلى المشركين منهم إلى أهل الكتاب ، ووعد الله المؤمنين أن تغلب
الروم بعد ذلك ، وأنه يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله .
فأضاف النصرة إلى اسم الله ، ولم يقل بنصر الله إياهم . وذلك أنه حين ظهرت
الروم على
فارس كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قد ظهروا على المشركين
واليهود .
وأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ ذاك يدعو ملوك
النصارى بالشام ومصر إلى الإيمان به ، فعرفوه وعرفوا أنه النبي المبشر به ، وكان ذلك أول ظهور دينه ، ثم أرسل طائفة من أصحابه إلى غيرهم ، ثم خرج بالمسلمين بنفسه معهم عام
تبوك إلى
الشام ، ثم فتح هذه البلاد أصحابه ، فكان تأييد دين الله وظهوره وإذلال المشركين
[ ص: 104 ] والمجوس وغيرهم من الكفار على يديه ويدي أمته ، لا على يد
اليهود والنصارى .
فلو قدر أن شرع أولئك كامل لا تبديل فيه ، لكان مغلوبا مقهورا ، وكان الله قد أرسل من يؤيد دينه ويظهره ، فكيف وهو مبدل ؟ ولو لم يبدل فدين أحمد أكمل وأفضل منه ، فذاك مفضول مبدل ، وهذا فاضل لم يبدل ، وذلك مغلوب مقهور ، وهذا مؤيد منصور . وببعض هذا تحصل الفائدة في إرساله .
فكان من أجل الفوائد إرسال
محمد - صلى الله عليه وسلم - فكيف يقال : إنه لا فائدة في إرساله .
الوجه الحادي عشر : قولهم : " لما كان الباري عدلا جوادا أوجب أن يظهر عدله وجوده " فيقال لهم : جود الجواد غير إلزام الناس بترك حقوقهم ، فإن الجواد هو الذي يحسن إلى الناس ليس هو الذي يلزم الناس بترك حقوقهم ، وهؤلاء يزعمون أن شريعة الإنجيل ألزمت الناس بترك حقوقهم ، وأنه لا ينصف مظلوم من ظالمه ، ولهذا ليس عندهم حكم عدل يحكمون به بين الناس ، بل الحكم عندهم حكمان : حكم الكنيسة ، وليس فيه إنصاف المظلوم من الظالم . والثاني : حكم الملوك ، وليس هو شرعا منزلا ، بل هو بحسب آراء الملوك .
ولهذا تجدهم يردون الناس إلى حكم شرع الإسلام في الدماء
[ ص: 105 ] والأموال ونحو ذلك ، حتى في بعض بلادهم يكون الملك والعسكر كلهم نصارى ، وفيهم طائفة قليلة مسلمون لهم حاكم ، فيردون الناس في الدماء والأموال إلى حكم شرع المسلمين ، وذلك أن الدماء والأموال وإن كان يستحب للمظلوم أن يعفو فيها عن ظالمه ، فالحاكم الذي يحكم بين الناس ، متى حكم على المظلوم بترك حقه كان حاكما بالظلم لا بالعدل .
ولو أمرنا كل ولي مقتول أن لا يقتص من القاتل ، وكل صاحب دين أن لا يطالب غريمه ، بل يدعه على اختياره ، وكل مشتوم ومضروب أن لا ينتصف من ظالمه ، لم يكن للظالمين زاجر يزجرهم ، وظلم الأقوياء الضعفاء ، وفسدت الأرض . قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=251ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض .
فلا بد من شرع يتضمن الحكم بالعدل ولا بد - مع ذلك - من ندب الناس إلى العفو والأخذ بالفضل .
وهذه شريعة الإسلام كما تقدم ما ذكرنا من الآيات مثل قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=45والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له .
[ ص: 106 ] وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=280وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم . : .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=40وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=126وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=134الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=92ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا .
[ ص: 107 ] وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=43ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور .
وقال أنس : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=679195ما رفع للنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر فيه القصاص ، إلا أمر فيه بالعفو " فكان يأمر بالعفو ، ولا يلزم الناس به ؛ ولهذا لما عتقت (
بريرة ) ، وكان لها أن تفسخ النكاح ، وطلب زوجها أن لا تفارقه ، شفع إليها أن لا تفارقه ، فقالت : أتأمرني ؟ قال : لا إنما أنا شافع فلم يوجب عليها قبول شفاعته - صلى الله عليه وسلم - .
الوجه الثاني عشر : قولهم : " ولما كان الكمال الذي هو الفضل
[ ص: 108 ] لا يمكن أن يضعه إلا أكمل الكمال " فيقال لهم : العدل والفضل لا يشرعه إلا الله ، فشريعة التوراة لم يشرعها إلا الله ، وشريعة الإنجيل لم يشرعها إلا الله - عز وجل - .
يبين ذلك
nindex.php?page=treesubj&link=32426_29434_31998أن الله كلم موسى من الشجرة تكليما ، وهم غاية ما قرروا به إلهية
المسيح أن زعموا أن الله كلم الناس من ناسوت
المسيح ، كما كلم
موسى من الشجرة ، ومعلوم عند كل عاقل ، لو كان هذا حقا ، أن تكليمه
لموسى من الشجرة أعظم تكليم كلمه الله لعباده فكيف يقال : إن شريعة العدل لم يشرعها الله عز وجل ؟ .
ثم يقال لهم : بل شريعة العدل أحق بأن تضاف إلى الله من شريعة الفضل ، فإن الأمر بالإحسان والعفو يحسنه كل أحد ، وأما معرفة العدل والحكم بين الناس به ، فلا يقدر عليه إلا آحاد الناس ؛ ولهذا يوجد الذي يصلح بين الناس بالإحسان خلق كثير ، وأما الذي يحسن أن يفصل بينهم بالعدل فناس قليل ، فكيف يقال : إن الذي يأمر بشرع الفضل هو الله ، دون الذي يأمر بشرع العدل ؟ .
والله - تعالى - أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ؛ ليقوم الناس بالقسط كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز .
[ ص: 109 ] وأمر
المسيح - عليه السلام - للمظلوم بالعفو عن الظالم : ليس فيه ما يدل على أنه من الواجب الذي من تركه استحق الذم والعقاب ، بل هو من المرغب فيه الذي من فعله استحق المدح والثواب .
وموسى - عليه السلام - أوجب العدل الذي من تركه استحق الذم والعقاب . وحينئذ فلا منافاة بين إيجاب العدل ، وبين استحباب الفضل .
لكن إيجاب العدل يقترن به الترهيب والتخويف في تركه ، واستحباب الفضل يقترن به الترغيب والتشويق إلى فعله ، فذاك فيه رهبة مع ما فيه من الرغبة . وهذا فيه رغبة بلا رهبة ؛ ولهذا قال
المسيح - عليه السلام - : .
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=117وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=118إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم .
ولهذا قيل : إن
المسيح - عليه السلام - بعث لتكميل التوراة ، فإن النوافل تكون بعد الفرائض كما في صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=656021يقول الله - تعالى - : " من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل [ ص: 110 ] حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته ، ولا بد له منه " .
وإلا فلو قيل : إن
المسيح - عليه السلام - أوجب على المظلوم العفو عن الظالم ؛ بمعنى أنه يستحق الوعيد والذم والعقاب إن
[ ص: 111 ] لم يعف عنه لزم من هذا أن يكون كل من انتصف من الظالم ، ظالما مستحقا للذم والعقاب ، وهذا ظلم ثان للمظلوم الذي انتصف ؛ فإن الظالم ظلمه أولا فلما انتصف منه ظلم ظلما ثانيا ، فهو ظلم العادل انتصف من ظالمه .
وما أحسن كلام الله حيث يقول : .
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=36فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=37والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=38والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=39والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=40وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=41ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=42إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=43ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور .
وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=60ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور .
فهذا من أحسن الكلام وأعدله وأفضله حيث شرع العدل فقال :
[ ص: 112 ] nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=40وجزاء سيئة سيئة مثلها .
ثم ندب إلى الفضل ، فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=40فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين .
ولما ندب إلى العفو ، ذكر أنه لا لوم على المنتصف ، لئلا يظن أن العفو فرض فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=41ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل .
ثم بين أن السبيل إنما يكون على الظالمين فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=42إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم .
ثم لما رفع عنهم السبيل ندبهم مع ذلك إلى الصبر والعفو فقال : .
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=43ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور .
فهذا أحسن شرع وأحكمه يرغب في الصبر والغفر والعفو والإصلاح بغاية الترغيب ، ويذكر ما فيه من الفضائل والمحاسن وحميد
[ ص: 113 ] العاقبة ، ويرفع عن المنتصف ممن ظلمه الملام والعذل ، ويبين أنه لا حرج عليه ولا سبيل إذا انتصر بعدما ظلم .
فهل يمكن أن تأتي شريعة بأن تجعل على المنتصف سبيلا مع عدله وهي لا تجعل على الظالم سبيلا مع ظلمه ؟ .
فعلم أن ما أمر به
المسيح من العفو لم يكن لأن تاركه مستحق للذم والعقاب ، بل لأنه محروم مما يحصل للعافي المحسن من الأجر والثواب ، وهذا حق لا يناقض شرع التوراة ، فعلم أن شرع الإنجيل لم يناقض شرع التوراة ؛ إذ كان فرعا عليها ومكملا لها ، وحينئذ فزعمهم أن شرع الإنجيل شرعه الله دون شرع التوراة كلام من هو من أجهل الناس وأضلهم ولهذا كان فرعا على قولهم بالاتحاد ، وأن
المسيح هو الله .
فذاك الضلال مما أوجب هذا القول المحال .
الْوَجْهُ الْعَاشِرُ : إِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - كَانَتْ سُنَّتُهُ قَبْلَ إِنْزَالِ
[ ص: 101 ] التَّوْرَاةِ ، إِذَا كُذِّبَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْ أَعْدَائِهِ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ ، كَمَا أَهْلَكَ
قَوْمَ نُوحٍ بِالْغَرَقِ ،
وَقَوْمَ هُودٍ بِالرِّيحِ الصَّرْصَرِ ،
وَقَوْمَ صَالِحٍ بِالصَّيْحَةِ ،
وَقَوْمَ شُعَيْبٍ بِالظُّلَّةِ ،
وَقَوْمَ لُوطٍ بِالْحَاصِبِ ،
وَقَوْمَ فِرْعَوْنَ بِالْغَرَقِ قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=43وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ .
فَلَمَّا أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ ، أَمَرَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِالْجِهَادِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ نَكَلَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَطَاعَ .
وَصَارَ الْمَقْصُودُ بِالرِّسَالَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى :
[ ص: 102 ] nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=28هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا .
nindex.php?page=treesubj&link=34095_29434فَقَوْلُ هَؤُلَاءِ : " إِنَّ التَّوْرَاةَ جَاءَتْ بِالْعَدْلِ ، وَالْإِنْجِيلَ بِالْفَضْلِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى غَيْرِهِمَا ، لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ حَقٌّ . إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إِذَا كَانَ الْكِتَابَانِ لَمْ يُبَدَّلَا ، بَلْ كَانَا مُتَّبَعَيْنِ عِلْمًا وَعَمَلًا ، وَكَانَ أَهْلُهُمَا مَعَ ذَلِكَ مَنْصُورِينَ مُؤَيَّدِينَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ ، فَكَيْفَ وَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ بُدِّلَ كَثِيرٌ مِمَّا فِيهِ ، وَأَهْلُهُمَا غَيْرُ مَنْصُورِينَ عَلَى سَائِرِ الْكُفَّارِ ، بَلِ الْكُفَّارُ ظَاهِرُونَ عَلَيْهِمْ فِي أَكْثَرِ الْأَرْضِ ؛ كَأَرْضِ
الْيَمَنِ وَالْحِجَازِ وَسَائِرِ
جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَأَرْضِ
الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَالْمَغْرِبِ وَأَرْضِ
الْهِنْدِ وَالسِّنْدِ وَالتُّرْكِ ، وَكَانَ بِأَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ
الشَّامُ وَمِصْرُ وَغَيْرُ ذَلِكَ ، وَمَعَ هَذَا فَكَانَتِ
الْفُرْسُ قَدْ غَلَبَتْهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَظْهَرَ
النَّصَارَى عَلَيْهِمْ ، فَكَانَ ظُهُورُهُمْ تَوْطِئَةً وَتَمْهِيدًا لِإِظْهَارِ دِينِ الْإِسْلَامِ .
فَإِنَّ
الْفُرْسَ الْمَجُوسَ لَمَّا غَلَبُوا الرُّومَ سَاءَ ذَلِكَ النَّبِيَّ
[ ص: 103 ] - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ ، وَفَرِحَ بِذَلِكَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ أَقْرَبُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ
الْمَجُوسِ ،
وَالْمَجُوسُ أَقْرَبُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَوَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَغْلِبَ
الرُّومُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَأَنَّهُ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ .
فَأَضَافَ النُّصْرَةَ إِلَى اسْمِ اللَّهِ ، وَلَمْ يَقُلْ بِنَصْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ . وَذَلِكَ أَنَّهُ حِينَ ظَهَرَتِ
الرُّومُ عَلَى
فَارِسَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ قَدْ ظَهَرُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ
وَالْيَهُودِ .
وَأَرْسَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ ذَاكَ يَدْعُو مُلُوكَ
النَّصَارَى بِالشَّامِ وَمِصْرَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ ، فَعَرَفُوهُ وَعَرَفُوا أَنَّهُ النَّبِيُّ الْمُبَشَّرُ بِهِ ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ ظُهُورِ دِينِهِ ، ثُمَّ أَرْسَلَ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى غَيْرِهِمْ ، ثُمَّ خَرَجَ بِالْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِهِ مَعَهُمْ عَامَ
تَبُوكَ إِلَى
الشَّامِ ، ثُمَّ فَتَحَ هَذِهِ الْبِلَادَ أَصْحَابُهُ ، فَكَانَ تَأْيِيدُ دِينِ اللَّهِ وَظُهُورُهُ وَإِذْلَالُ الْمُشْرِكِينَ
[ ص: 104 ] وَالْمَجُوسِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى يَدَيْهِ وَيَدَيْ أُمَّتِهِ ، لَا عَلَى يَدِ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى .
فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ شَرْعَ أُولَئِكَ كَامِلٌ لَا تَبْدِيلَ فِيهِ ، لَكَانَ مَغْلُوبًا مَقْهُورًا ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ أَرْسَلَ مَنْ يُؤَيِّدُ دِينَهُ وَيُظْهِرُهُ ، فَكَيْفَ وَهُوَ مُبَدَّلٌ ؟ وَلَوْ لَمْ يُبَدَّلْ فَدِينُ أَحْمَدَ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ مِنْهُ ، فَذَاكَ مَفْضُولٌ مُبَدَّلٌ ، وَهَذَا فَاضَلٌ لَمْ يُبَدَّلْ ، وَذَلِكَ مَغْلُوبٌ مَقْهُورٌ ، وَهَذَا مُؤَيَّدٌ مَنْصُورٌ . وَبِبَعْضِ هَذَا تَحْصُلُ الْفَائِدَةُ فِي إِرْسَالِهِ .
فَكَانَ مِنْ أَجَلِّ الْفَوَائِدِ إِرْسَالُ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَيْفَ يُقَالُ : إِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إِرْسَالِهِ .
الْوَجْهُ الْحَادِي عَشَرَ : قَوْلُهُمْ : " لَمَّا كَانَ الْبَارِي عَدْلًا جَوَّادًا أَوْجَبَ أَنْ يُظْهِرَ عَدْلَهُ وَجُودَهُ " فَيُقَالُ لَهُمْ : جُودُ الْجَوَّادِ غَيْرُ إِلْزَامِ النَّاسِ بِتَرْكِ حُقُوقِهِمْ ، فَإِنَّ الْجَوَّادَ هُوَ الَّذِي يُحْسِنُ إِلَى النَّاسِ لَيْسَ هُوَ الَّذِي يُلْزِمُ النَّاسَ بِتَرْكِ حُقُوقِهِمْ ، وَهَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّ شَرِيعَةَ الْإِنْجِيلِ أَلْزَمَتِ النَّاسَ بِتَرْكِ حُقُوقِهِمْ ، وَأَنَّهُ لَا يُنْصَفُ مَظْلُومٌ مِنْ ظَالِمِهِ ، وَلِهَذَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ حُكْمٌ عَدْلٌ يَحْكُمُونَ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ ، بَلِ الْحُكْمُ عِنْدَهُمْ حُكْمَانِ : حُكْمُ الْكَنِيسَةِ ، وَلَيْسَ فِيهِ إِنْصَافُ الْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ . وَالثَّانِي : حُكْمُ الْمُلُوكِ ، وَلَيْسَ هُوَ شَرْعًا مُنَزَّلًا ، بَلْ هُوَ بِحَسْبِ آرَاءِ الْمُلُوكِ .
وَلِهَذَا تَجِدُهُمْ يَرُدُّونَ النَّاسَ إِلَى حُكْمِ شَرْعِ الْإِسْلَامِ فِي الدِّمَاءِ
[ ص: 105 ] وَالْأَمْوَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، حَتَّى فِي بَعْضِ بِلَادِهِمْ يَكُونُ الْمَلِكُ وَالْعَسْكَرُ كُلُّهُمْ نَصَارَى ، وَفِيهِمْ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ مُسْلِمُونَ لَهُمْ حَاكِمٌ ، فَيَرُدُّونَ النَّاسَ فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ إِلَى حُكْمِ شَرْعِ الْمُسْلِمِينَ ، وَذَلِكَ أَنَّ الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ وَإِنْ كَانَ يُسْتَحَبُّ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَعْفُوَ فِيهَا عَنْ ظَالِمِهِ ، فَالْحَاكِمُ الَّذِي يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ ، مَتَى حَكَمَ عَلَى الْمَظْلُومِ بِتَرْكِ حَقِّهِ كَانَ حَاكِمًا بِالظُّلْمِ لَا بِالْعَدْلِ .
وَلَوْ أَمَرْنَا كُلَّ وَلِيِّ مَقْتُولٍ أَنْ لَا يَقْتَصَّ مِنَ الْقَاتِلِ ، وَكُلَّ صَاحِبِ دَيْنٍ أَنْ لَا يُطَالِبَ غَرِيمَهُ ، بَلْ يَدَعَهُ عَلَى اخْتِيَارِهِ ، وَكُلَّ مَشْتُومٍ وَمَضْرُوبٍ أَنْ لَا يَنْتَصِفَ مِنْ ظَالِمِهِ ، لَمْ يَكُنْ لِلظَّالِمِينَ زَاجِرٌ يَزْجُرُهُمْ ، وَظَلَمَ الْأَقْوِيَاءُ الضُّعَفَاءَ ، وَفَسَدَتِ الْأَرْضُ . قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=251وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ .
فَلَا بُدَّ مِنْ شَرْعٍ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ بِالْعَدْلِ وَلَا بُدَّ - مَعَ ذَلِكَ - مِنْ نَدْبِ النَّاسِ إِلَى الْعَفْوِ وَالْأَخْذِ بِالْفَضْلِ .
وَهَذِهِ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْآيَاتِ مِثْلِ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=45وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ .
[ ص: 106 ] وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=280وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ . : .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=40وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=126وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=134الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=92وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا .
[ ص: 107 ] وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=43وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ .
وَقَالَ أَنَسٌ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=679195مَا رُفِعَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْرٌ فِيهِ الْقِصَاصُ ، إِلَّا أَمَرَ فِيهِ بِالْعَفْوِ " فَكَانَ يَأْمُرُ بِالْعَفْوِ ، وَلَا يُلْزِمُ النَّاسَ بِهِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا عَتَقَتْ (
بَرِيرَةُ ) ، وَكَانَ لَهَا أَنْ تَفْسَخَ النِّكَاحَ ، وَطَلَبَ زَوْجُهَا أَنْ لَا تُفَارِقَهُ ، شَفَعَ إِلَيْهَا أَنْ لَا تُفَارِقَهُ ، فَقَالَتْ : أَتَأْمُرُنِي ؟ قَالَ : لَا إِنَّمَا أَنَا شَافِعٌ فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهَا قَبُولَ شَفَاعَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
الْوَجْهُ الثَّانِي عَشَرَ : قَوْلُهُمْ : " وَلَمَّا كَانَ الْكَمَالُ الَّذِي هُوَ الْفَضْلُ
[ ص: 108 ] لَا يُمْكِنُ أَنْ يَضَعَهُ إِلَّا أَكْمَلُ الْكُمَّالِ " فَيُقَالُ لَهُمْ : الْعَدْلُ وَالْفَضْلُ لَا يُشَرِّعُهُ إِلَّا اللَّهُ ، فَشَرِيعَةُ التَّوْرَاةِ لَمْ يُشَرِّعْهَا إِلَّا اللَّهُ ، وَشَرِيعَةُ الْإِنْجِيلِ لَمْ يُشَرِّعْهَا إِلَّا اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - .
يُبَيِّنُ ذَلِكَ
nindex.php?page=treesubj&link=32426_29434_31998أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى مِنَ الشَّجَرَةِ تَكْلِيمًا ، وَهُمْ غَايَةُ مَا قَرَّرُوا بِهِ إِلَهِيَّةَ
الْمَسِيحِ أَنْ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ النَّاسَ مِنْ نَاسُوتِ
الْمَسِيحِ ، كَمَا كَلَّمَ
مُوسَى مِنَ الشَّجَرَةِ ، وَمَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ ، لَوْ كَانَ هَذَا حَقًّا ، أَنَّ تَكْلِيمَهُ
لِمُوسَى مِنَ الشَّجَرَةِ أَعْظَمُ تَكْلِيمٍ كَلَّمَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ فَكَيْفَ يُقَالُ : إِنَّ شَرِيعَةَ الْعَدْلِ لَمْ يُشَرِّعْهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ؟ .
ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ : بَلْ شَرِيعَةُ الْعَدْلِ أَحَقُّ بِأَنْ تُضَافَ إِلَى اللَّهِ مِنْ شَرِيعَةِ الْفَضْلِ ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْإِحْسَانِ وَالْعَفْوِ يُحَسِّنُهُ كُلُّ أَحَدٍ ، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْعَدْلِ وَالْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا آحَادُ النَّاسِ ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْإِحْسَانِ خَلْقٌ كَثِيرٌ ، وَأَمَّا الَّذِي يُحْسِنُ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ فَنَاسٌ قَلِيلٌ ، فَكَيْفَ يُقَالُ : إِنَّ الَّذِي يَأْمُرُ بِشَرْعِ الْفَضْلِ هُوَ اللَّهُ ، دُونَ الَّذِي يَأْمُرُ بِشَرْعِ الْعَدْلِ ؟ .
وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَرْسَلَ الرُّسُلَ ، وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ ؛ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ .
[ ص: 109 ] وَأَمْرُ
الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلْمَظْلُومِ بِالْعَفْوِ عَنِ الظَّالِمِ : لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْوَاجِبِ الَّذِي مَنْ تَرَكَهُ اسْتَحَقَّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ ، بَلْ هُوَ مِنَ الْمُرَغَّبِ فِيهِ الَّذِي مَنْ فَعَلَهُ اسْتَحَقَّ الْمَدْحَ وَالثَّوَابَ .
وَمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْجَبَ الْعَدْلَ الَّذِي مَنْ تَرَكَهُ اسْتَحَقَّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ . وَحِينَئِذٍ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ إِيجَابِ الْعَدْلِ ، وَبَيْنَ اسْتِحْبَابِ الْفَضْلِ .
لَكِنَّ إِيجَابَ الْعَدْلِ يَقْتَرِنُ بِهِ التَّرْهِيبُ وَالتَّخْوِيفُ فِي تَرْكِهِ ، وَاسْتِحْبَابُ الْفَضْلِ يَقْتَرِنُ بِهِ التَّرْغِيبُ وَالتَّشْوِيقُ إِلَى فِعْلِهِ ، فَذَاكَ فِيهِ رَهْبَةٌ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الرَّغْبَةِ . وَهَذَا فِيهِ رَغْبَةٌ بِلَا رَهْبَةٍ ؛ وَلِهَذَا قَالَ
الْمَسِيحُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : .
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=117وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=118إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .
وَلِهَذَا قِيلَ : إِنَّ
الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بُعِثَ لِتَكْمِيلِ التَّوْرَاةِ ، فَإِنَّ النَّوَافِلَ تَكُونُ بَعْدَ الْفَرَائِضِ كَمَا فِي صَحِيحِ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيِّ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=656021يَقُولُ اللَّهُ - تَعَالَى - : " مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ [ ص: 110 ] حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ، فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي ، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَ بِي لَأُعِيذَنَّهُ ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ " .
وَإِلَّا فَلَوْ قِيلَ : إِنَّ
الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْجَبَ عَلَى الْمَظْلُومِ الْعَفْوَ عَنِ الظَّالِمِ ؛ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ وَالذَّمَّ وَالْعِقَابَ إِنْ
[ ص: 111 ] لَمْ يَعْفُ عَنْهُ لَزِمَ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنِ انْتَصَفَ مِنَ الظَّالِمِ ، ظَالِمًا مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ ، وَهَذَا ظُلْمٌ ثَانٍ لِلْمَظْلُومِ الَّذِي انْتَصَفَ ؛ فَإِنَّ الظَّالِمَ ظَلَمَهُ أَوَّلًا فَلَمَّا انْتَصَفَ مِنْهُ ظُلِمَ ظُلْمًا ثَانِيًا ، فَهُوَ ظُلْمُ الْعَادِلِ انْتَصَفَ مِنْ ظَالِمِهِ .
وَمَا أَحْسَنَ كَلَامَ اللَّهِ حَيْثُ يَقُولُ : .
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=36فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=37وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=38وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=39وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=40وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=41وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=42إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=43وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ .
وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=60ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ .
فَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ وَأَعْدَلِهِ وَأَفْضَلِهِ حَيْثُ شَرَعَ الْعَدْلَ فَقَالَ :
[ ص: 112 ] nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=40وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا .
ثُمَّ نَدَبَ إِلَى الْفَضْلِ ، فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=40فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ .
وَلَمَّا نَدَبَ إِلَى الْعَفْوِ ، ذَكَرَ أَنَّهُ لَا لَوْمَ عَلَى الْمُنْتَصِفِ ، لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ الْعَفْوَ فَرْضٌ فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=41وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ .
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ السَّبِيلَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الظَّالِمِينَ فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=42إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ .
ثُمَّ لَمَّا رَفَعَ عَنْهُمُ السَّبِيلَ نَدَبَهُمْ مَعَ ذَلِكَ إِلَى الصَّبْرِ وَالْعَفْوِ فَقَالَ : .
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=43وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ .
فَهَذَا أَحْسَنُ شَرْعٍ وَأَحْكَمُهُ يُرَغِّبُ فِي الصَّبْرِ وَالْغَفْرِ وَالْعَفْوِ وَالْإِصْلَاحِ بِغَايَةِ التَّرْغِيبِ ، وَيَذْكُرُ مَا فِيهِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْمَحَاسِنِ وَحَمِيدِ
[ ص: 113 ] الْعَاقِبَةِ ، وَيَرْفَعُ عَنِ الْمُنْتَصِفِ مِمَّنْ ظَلَمَهُ الْمَلَامَ وَالْعَذْلَ ، وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ وَلَا سَبِيلَ إِذَا انْتَصَرَ بَعْدَمَا ظُلِمَ .
فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ تَأْتِيَ شَرِيعَةٌ بِأَنْ تَجْعَلَ عَلَى الْمُنْتَصِفِ سَبِيلًا مَعَ عَدْلِهِ وَهِيَ لَا تَجْعَلُ عَلَى الظَّالِمِ سَبِيلًا مَعَ ظُلْمِهِ ؟ .
فَعُلِمَ أَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ
الْمَسِيحُ مِنَ الْعَفْوِ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّ تَارِكَهُ مُسْتَحِقٌّ لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ ، بَلْ لِأَنَّهُ مَحْرُومٌ مِمَّا يَحْصُلُ لِلْعَافِي الْمُحْسِنِ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ ، وَهَذَا حَقٌّ لَا يُنَاقِضُ شَرْعَ التَّوْرَاةِ ، فَعُلِمَ أَنَّ شَرْعَ الْإِنْجِيلِ لَمْ يُنَاقِضْ شَرْعَ التَّوْرَاةِ ؛ إِذْ كَانَ فَرْعًا عَلَيْهَا وَمُكَمِّلًا لَهَا ، وَحِينَئِذٍ فَزَعْمُهُمْ أَنَّ شَرْعَ الْإِنْجِيلِ شَرَعَهُ اللَّهُ دُونَ شَرْعِ التَّوْرَاةِ كَلَامُ مَنْ هُوَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ وَأَضَلِّهِمْ وَلِهَذَا كَانَ فَرْعًا عَلَى قَوْلِهِمْ بِالِاتِّحَادِ ، وَأَنَّ
الْمَسِيحَ هُوَ اللَّهُ .
فَذَاكَ الضَّلَالُ مِمَّا أَوْجَبَ هَذَا الْقَوْلَ الْمُحَالَ .