فصل مراتب الجود
والجود عشر مراتب .
إحداها : الجود بالنفس . وهو أعلى مراتبه ، كما قال الشاعر :
يجود بالنفس ، إذ ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود
الثانية : الجود بالرياسة . وهو ثاني
nindex.php?page=treesubj&link=20126مراتب الجود . فيحمل الجواد جوده على امتهان رياسته ، والجود بها . والإيثار في قضاء حاجات الملتمس .
الثالثة : الجود براحته ورفاهيته ، وإجمام نفسه . فيجود بها تعبا وكدا في مصلحة غيره . ومن هذا جود الإنسان بنومه ولذته لمسامره ، كما قيل :
متيم بالندى ، لو قال سائله : هب لي جميع كرى عينيك ، لم ينم
الرابعة : الجود بالعلم وبذله . وهو من أعلى مراتب الجود . والجود به أفضل من الجود بالمال . لأن العلم أشرف من المال .
والناس في الجود به على مراتب متفاوتة . وقد اقتضت حكمة الله وتقديره النافذ : أن لا ينفع به بخيلا أبدا .
ومن الجود به : أن تبذله لمن يسألك عنه ، بل تطرحه عليه طرحا .
ومن الجود بالعلم : أن السائل إذا سألك عن مسألة : استقصيت له جوابها جوابا شافيا ، لا يكون جوابك له بقدر ما تدفع به الضرورة ، كما كان بعضهم يكتب في جواب الفتيا : نعم ، أو : لا . مقتصرا عليها .
ولقد شاهدت من شيخ الإسلام
ابن تيمية - قدس الله روحه - في ذلك أمرا عجيبا :
كان إذا سئل عن مسألة حكمية ، ذكر في جوابها مذاهب الأئمة الأربعة ، إذا قدر ، ومأخذ الخلاف ، وترجيح القول الراجح . وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته . فيكون فرحه بتلك المتعلقات ، واللوازم : أعظم من فرحه بمسألته .
[ ص: 280 ] وهذه فتاويه - رحمه الله - بين الناس . فمن أحب الوقوف عليها رأى ذلك .
فمن جود الإنسان بالعلم : أنه لا يقتصر على مسألة السائل . بل يذكر له نظائرها ومتعلقها ومأخذها ، بحيث يشفيه ويكفيه .
وقد سأل الصحابة رضي الله عنهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المتوضئ بماء البحر ؟ فقال
nindex.php?page=hadith&LINKID=980472هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته فأجابهم عن سؤالهم . وجاد عليهم بما لعلهم في بعض الأحيان إليه أحوج مما سألوه عنه .
وكانوا إذا سألوه عن الحكم نبههم على علته وحكمته . كما سألوه عن بيع الرطب بالتمر ؟ فقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980473أينقص الرطب إذا جف ؟ قالوا : نعم . قال : فلا إذن ولم يكن يخفى عليه صلى الله عليه وسلم نقصان الرطب بجفافه ، ولكن نبههم على علة الحكم . وهذا كثير جدا في أجوبته صلى الله عليه وسلم . مثل قوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980474إن بعت من أخيك ثمرة . فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئا . بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق ؟ وفي لفظ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980475أرأيت إن منع الله الثمرة : بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق ؟ فصرح بالعلة التي يحرم لأجلها إلزامه بالثمن . وهي منع الله الثمرة التي ليس للمشتري فيها صنع .
وكان خصومه - يعني شيخ الإسلام
ابن تيمية - يعيبونه بذلك . ويقولون : سأله السائل عن طريق
مصر - مثلا - فيذكر له معها طريق
مكة ، والمدينة ، وخراسان ، والعراق ، والهند . وأي حاجة بالسائل إلى ذلك ؟ .
ولعمر الله ليس ذلك بعيب ، وإنما العيب : الجهل والكبر . وهذا موضع المثل المشهور :
[ ص: 281 ] لقبوه بحامض وهو خل مثل من لم يصل إلى العنقود
الخامسة : الجود بالنفع بالجاه . كالشفاعة والمشي مع الرجل إلى ذي سلطان ونحوه . وذلك زكاة الجاه المطالب بها العبد . كما أن التعليم وبذل العلم زكاته .
السادسة : الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه . كما قال صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980476يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة . كل يوم تطلع فيه الشمس ، يعدل بين اثنين : صدقة . ويعين الرجل في دابته ، فيحمله عليها ، أو يرفع له عليها متاعه : صدقة . والكلمة الطيبة : صدقة ، وبكل خطوة يمشيها الرجل إلى الصلاة : صدقة . ويميط الأذى عن الطريق : صدقة متفق عليه .
السابعة : الجود بالعرض ، كجود
أبي ضمضم من الصحابة رضي الله عنهم . كان إذا أصبح قال : اللهم إنه لا مال لي أتصدق به على الناس . وقد تصدقت عليهم بعرضي ، فمن شتمني ، أو قذفني : فهو في حل . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من يستطيع منكم أن يكون كأبي ضمضم ؟ .
وفي هذا الجود من سلامة الصدر ، وراحة القلب ، والتخلص من معاداة الخلق ما فيه .
الثامنة : الجود بالصبر ، والاحتمال ، والإغضاء . وهذه مرتبة شريفة من مراتبه . وهي أنفع لصاحبها من الجود بالمال ، وأعز له وأنصر ، وأملك لنفسه ، وأشرف لها . ولا يقدر عليها إلا النفوس الكبار .
فمن صعب عليه الجود بماله فعليه بهذا الجود . فإنه يجتني ثمرة عواقبه الحميدة في الدنيا قبل الآخرة . وهذا جود الفتوة . قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=45والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له وفي هذا الجود قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=40وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين [ ص: 282 ] فذكر المقامات الثلاثة في هذه الآية : مقام العدل ، وأذن فيه . ومقام الفضل ، وندب إليه . ومقام الظلم ، وحرمه .
التاسعة : الجود بالخلق والبشر والبسطة . وهو فوق الجود بالصبر ، والاحتمال والعفو . وهو الذي بلغ بصاحبه درجة الصائم القائم . وهو أثقل ما يوضع في الميزان . قال النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980478لا تحقرن من المعروف شيئا ، ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط إليه وفي هذا الجود من المنافع والمسار ، وأنواع المصالح ما فيه . والعبد لا يمكنه أن يسعهم بخلقه واحتماله .
العاشرة : الجود بتركه ما في أيدي الناس عليهم . فلا يلتفت إليه . ولا يستشرف له بقلبه ، ولا يتعرض له بحاله ، ولا لسانه . وهذا الذي قال
nindex.php?page=showalam&ids=16418عبد الله بن المبارك : إنه أفضل من سخاء النفس بالبذل .
فلسان حال القدر يقول للفقير الجواد : وإن لم أعطك ما تجود به على الناس ، فجد عليهم بزهدك في أموالهم . وما في أيديهم ، تفضل عليهم ، وتزاحمهم في الجود ، وتنفرد عنهم بالراحة .
ولكل مرتبة من مراتب الجود مزيد وتأثير خاص في القلب والحال . والله سبحانه قد ضمن المزيد للجواد ، والإتلاف للممسك . والله المستعان .
فَصْلٌ مَرَاتِبُ الْجُودِ
وَالْجُودُ عَشْرُ مَرَاتِبَ .
إِحْدَاهَا : الْجُودُ بِالنَّفْسِ . وَهُوَ أَعْلَى مَرَاتِبِهِ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
يَجُودُ بِالنَّفْسِ ، إِذْ ضَنَّ الْبَخِيلُ بِهَا وَالْجُودُ بِالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَةِ الْجُودِ
الثَّانِيَةُ : الْجُودُ بِالرِّيَاسَةِ . وَهُوَ ثَانِي
nindex.php?page=treesubj&link=20126مَرَاتِبِ الْجُودِ . فَيَحْمِلُ الْجَوَادَ جُودُهُ عَلَى امْتِهَانِ رِيَاسَتِهِ ، وَالْجُودِ بِهَا . وَالْإِيثَارِ فِي قَضَاءِ حَاجَاتِ الْمُلْتَمِسِ .
الثَّالِثَةُ : الْجُودُ بِرَاحَتِهِ وَرَفَاهِيَتِهِ ، وَإِجْمَامِ نَفْسِهِ . فَيَجُودُ بِهَا تَعَبًا وَكَدًّا فِي مَصْلَحَةِ غَيْرِهِ . وَمِنْ هَذَا جُودُ الْإِنْسَانِ بِنَوْمِهِ وَلَذَّتِهِ لِمُسَامِرِهِ ، كَمَا قِيلَ :
مُتَيَّمٌ بِالنَّدَى ، لَوْ قَالَ سَائِلُهُ : هَبْ لِي جَمِيعَ كَرَى عَيْنَيْكَ ، لَمْ يَنَمِ
الرَّابِعَةُ : الْجُودُ بِالْعِلْمِ وَبَذْلِهِ . وَهُوَ مِنْ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْجُودِ . وَالْجُودُ بِهِ أَفْضَلُ مِنَ الْجُودِ بِالْمَالِ . لِأَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ مِنَ الْمَالِ .
وَالنَّاسُ فِي الْجُودِ بِهِ عَلَى مَرَاتِبَ مُتَفَاوِتَةٍ . وَقَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ وَتَقْدِيرُهُ النَّافِذُ : أَنْ لَا يَنْفَعَ بِهِ بَخِيلًا أَبَدًا .
وَمِنَ الْجُودِ بِهِ : أَنْ تَبْذُلَهُ لِمَنْ يَسْأَلُكَ عَنْهُ ، بَلْ تَطْرَحُهُ عَلَيْهِ طَرْحًا .
وَمِنَ الْجُودِ بِالْعِلْمِ : أَنَّ السَّائِلَ إِذَا سَأَلَكَ عَنْ مَسْأَلَةٍ : اسْتَقْصَيْتَ لَهُ جَوَابَهَا جَوَابًا شَافِيًا ، لَا يَكُونُ جَوَابُكَ لَهُ بِقَدْرِ مَا تُدْفَعُ بِهِ الضَّرُورَةُ ، كَمَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَكْتُبُ فِي جَوَابِ الْفُتْيَا : نَعَمْ ، أَوْ : لَا . مُقْتَصِرًا عَلَيْهَا .
وَلَقَدْ شَاهَدْتُ مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ
ابْنِ تَيْمِيَةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - فِي ذَلِكَ أَمْرًا عَجِيبًا :
كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ حُكْمِيَّةٍ ، ذَكَرَ فِي جَوَابِهَا مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ، إِذَا قَدَرَ ، وَمَأْخَذَ الْخِلَافِ ، وَتَرْجِيحَ الْقَوْلِ الرَّاجِحِ . وَذَكَرَ مُتَعَلَّقَاتِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي رُبَّمَا تَكُونُ أَنْفَعَ لِلسَّائِلِ مِنْ مَسْأَلَتِهِ . فَيَكُونُ فَرَحُهُ بِتِلْكَ الْمُتَعَلَّقَاتِ ، وَاللَّوَازِمِ : أَعْظَمَ مِنْ فَرَحِهِ بِمَسْأَلَتِهِ .
[ ص: 280 ] وَهَذِهِ فَتَاوِيهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ النَّاسِ . فَمَنْ أَحَبَّ الْوُقُوفَ عَلَيْهَا رَأَى ذَلِكَ .
فَمِنْ جُودِ الْإِنْسَانِ بِالْعِلْمِ : أَنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى مَسْأَلَةِ السَّائِلِ . بَلْ يَذْكُرُ لَهُ نَظَائِرَهَا وَمُتَعَلِّقَهَا وَمَأْخَذَهَا ، بِحَيْثُ يَشْفِيهِ وَيَكْفِيهِ .
وَقَدْ سَأَلَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُتَوَضِّئِ بِمَاءِ الْبَحْرِ ؟ فَقَالَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=980472هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ ، الْحِلُّ مِيتَتُهُ فَأَجَابَهُمْ عَنْ سُؤَالِهِمْ . وَجَادَ عَلَيْهِمْ بِمَا لَعَلَّهُمْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ إِلَيْهِ أَحْوَجُ مِمَّا سَأَلُوهُ عَنْهُ .
وَكَانُوا إِذَا سَأَلُوهُ عَنِ الْحُكْمِ نَبَّهَهُمْ عَلَى عِلَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ . كَمَا سَأَلُوهُ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ ؟ فَقَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980473أَيُنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا جَفَّ ؟ قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ : فَلَا إِذَنْ وَلَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُقْصَانُ الرُّطَبِ بِجَفَافِهِ ، وَلَكِنْ نَبَّهَهُمْ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ . وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فِي أَجْوِبَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . مِثْلَ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980474إِنْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرَةً . فَأَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ أَخِيكَ شَيْئًا . بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ؟ وَفِي لَفْظٍ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980475أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ : بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ؟ فَصَرَّحَ بِالْعِلَّةِ الَّتِي يَحْرُمُ لِأَجْلِهَا إِلْزَامُهُ بِالثَّمَنِ . وَهِيَ مَنْعُ اللَّهِ الثَّمَرَةَ الَّتِي لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي فِيهَا صُنْعٌ .
وَكَانَ خُصُومُهُ - يَعْنِي شَيْخَ الْإِسْلَامِ
ابْنَ تَيْمِيَةَ - يَعِيبُونَهُ بِذَلِكَ . وَيَقُولُونَ : سَأَلَهُ السَّائِلُ عَنْ طَرِيقِ
مِصْرَ - مَثَلًا - فَيَذْكُرُ لَهُ مَعَهَا طَرِيقَ
مَكَّةَ ، وَالْمَدِينَةِ ، وَخُرَاسَانَ ، وَالْعِرَاقِ ، وَالْهِنْدِ . وَأَيُّ حَاجَةٍ بِالسَّائِلِ إِلَى ذَلِكَ ؟ .
وَلَعَمْرُ اللَّهِ لَيْسَ ذَلِكَ بِعَيْبٍ ، وَإِنَّمَا الْعَيْبُ : الْجَهْلُ وَالْكِبْرُ . وَهَذَا مَوْضِعُ الْمَثَلِ الْمَشْهُورِ :
[ ص: 281 ] لَقَّبُوهُ بِحَامِضٍ وَهْوَ خَلٌّ مِثْلَ مَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى الْعُنْقُودِ
الْخَامِسَةُ : الْجُودُ بِالنَّفْعِ بِالْجَاهِ . كَالشَّفَاعَةِ وَالْمَشْيِ مَعَ الرَّجُلِ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ وَنَحْوِهِ . وَذَلِكَ زَكَاةُ الْجَاهِ الْمُطَالَبُ بِهَا الْعَبْدُ . كَمَا أَنَّ التَّعْلِيمَ وَبَذْلَ الْعِلْمِ زَكَاتُهُ .
السَّادِسَةُ : الْجُودُ بِنَفْعِ الْبَدَنِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ . كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980476يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ . كُلُّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ ، يَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ : صَدَقَةٌ . وَيُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ ، فَيَحْمِلُهُ عَلَيْهَا ، أَوْ يَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ : صَدَقَةٌ . وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ : صَدَقَةٌ ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ يُمْشِيهَا الرَّجُلُ إِلَى الصَّلَاةِ : صَدَقَةٌ . وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ : صَدَقَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
السَّابِعَةُ : الْجُودُ بِالْعِرْضِ ، كَجُودِ
أَبِي ضَمْضَمٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . كَانَ إِذَا أَصْبَحَ قَالَ : اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَا مَالَ لِي أَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى النَّاسِ . وَقَدْ تَصَدَّقْتُ عَلَيْهِمْ بِعِرْضِي ، فَمَنْ شَتَمَنِي ، أَوْ قَذَفَنِي : فَهُوَ فِي حِلٍّ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ يَسْتَطِيعُ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمٍ ؟ .
وَفِي هَذَا الْجُودِ مِنْ سَلَامَةِ الصَّدْرِ ، وَرَاحَةِ الْقَلْبِ ، وَالتَّخَلُّصِ مِنْ مُعَادَاةِ الْخَلْقِ مَا فِيهِ .
الثَّامِنَةُ : الْجُودُ بِالصَّبْرِ ، وَالِاحْتِمَالِ ، وَالْإِغْضَاءِ . وَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ شَرِيفَةٌ مِنْ مَرَاتِبِهِ . وَهِيَ أَنْفَعُ لِصَاحِبِهَا مِنَ الْجُودِ بِالْمَالِ ، وَأَعَزُّ لَهُ وَأَنْصَرُ ، وَأَمَلَكُ لِنَفْسِهِ ، وَأَشْرَفُ لَهَا . وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا النُّفُوسُ الْكِبَارُ .
فَمَنْ صَعُبَ عَلَيْهِ الْجُودُ بِمَالِهِ فَعَلَيْهِ بِهَذَا الْجُودِ . فَإِنَّهُ يَجْتَنِي ثَمَرَةَ عَوَاقِبِهِ الْحَمِيدَةِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ . وَهَذَا جُودُ الْفُتُوَّةِ . قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=45وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَفِي هَذَا الْجُودِ قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=40وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [ ص: 282 ] فَذَكَرَ الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : مَقَامَ الْعَدْلِ ، وَأَذِنَ فِيهِ . وَمَقَامَ الْفَضْلِ ، وَنَدَبَ إِلَيْهِ . وَمَقَامَ الظُّلْمِ ، وَحَرَّمَهُ .
التَّاسِعَةُ : الْجُودُ بِالْخُلُقِ وَالْبِشْرِ وَالْبَسْطَةِ . وَهُوَ فَوْقَ الْجُودِ بِالصَّبْرِ ، وَالِاحْتِمَالِ وَالْعَفْوِ . وَهُوَ الَّذِي بَلَغَ بِصَاحِبِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ . وَهُوَ أَثْقَلُ مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980478لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ وَفِي هَذَا الْجُودِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَسَارِّ ، وَأَنْوَاعِ الْمَصَالِحِ مَا فِيهِ . وَالْعَبْدُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسَعَهُمْ بِخُلُقِهِ وَاحْتِمَالِهِ .
الْعَاشِرَةُ : الْجُودُ بِتَرْكِهِ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ عَلَيْهِمْ . فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ . وَلَا يَسْتَشْرِفُ لَهُ بِقَلْبِهِ ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُ بِحَالِهِ ، وَلَا لِسَانِهِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16418عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : إِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ سَخَاءِ النَّفْسِ بِالْبَذْلِ .
فَلِسَانُ حَالِ الْقَدَرِ يَقُولُ لِلْفَقِيرِ الْجَوَادِ : وَإِنْ لَمْ أُعْطِكَ مَا تَجُودُ بِهِ عَلَى النَّاسِ ، فَجُدْ عَلَيْهِمْ بِزُهْدِكَ فِي أَمْوَالِهِمْ . وَمَا فِي أَيْدِيهِمْ ، تُفَضَّلْ عَلَيْهِمْ ، وَتُزَاحِمْهُمْ فِي الْجُودِ ، وَتَنْفَرِدْ عَنْهُمْ بِالرَّاحَةِ .
وَلِكُلِّ مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الْجُودِ مَزِيدٌ وَتَأْثِيرٌ خَاصٌّ فِي الْقَلْبِ وَالْحَالِ . وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ ضَمِنَ الْمَزِيدَ لِلْجَوَادِ ، وَالْإِتْلَافَ لِلْمُمْسِكِ . وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .