فصل ومنها
nindex.php?page=treesubj&link=24479الوقت ، قال صاحب المنازل :
باب الوقت . قال الله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=40ثم جئت على قدر ياموسى الوقت اسم لظرف الكون . وهو اسم في هذا الباب لثلاثة معان ، على ثلاث درجات . المعنى الأول : حين وجد صادق ، لإيناس ضياء فضل جذبه صفاء رجاء ، أو لعصمة جذبها
[ ص: 123 ] صدق خوف . أو لتلهب شوق جذبه اشتعال محبة .
وجه استشهاده بالآية : أن الله سبحانه قدر مجيء
موسى أحوج ما كان الوقت إليه . فإن العرب تقول : جاء فلان على قدر . إذا جاء وقت الحاجة إليه . قال
جرير :
نال الخلافة إذ كانت على قدر كما أتى ربه موسى على قدر
وقال
مجاهد : على موعد . وهذا فيه نظر . لأنه لم يسبق بين الله سبحانه وبين
موسى موعد للمجيء ، حتى يقال : إنه أتى على ذلك الموعد .
ولكن وجه هذا : أن المعنى : جئت على الموعد الذي وعدنا أن ننجزه ، والقدر الذي قدرنا أن يكون في وقته ، وهذا كقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=107إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=108ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا لأن الله سبحانه وتعالى وعد بإرسال نبي في آخر الزمان يملأ الأرض نورا وهدى . فلما سمعوا القرآن : علموا أن الله أنجز ذلك الوعد الذي وعد به .
واستشهاده بهذه الآية يدل على محله من العلم . لأن الشيء إذا وقع في وقته الذي هو أليق الأوقات بوقوعه فيه : كان أحسن وأنفع وأجدى . كما إذا وقع الغيث في أحوج الأوقات إليه . وكما إذا وقع الفرج في الوقت الذي يليق به .
ومن تأمل أقدار الرب تعالى ، وجريانها في الخلق : علم أنها واقعة في أليق الأوقات بها .
فبعث الله سبحانه
موسى : أحوج ما كان الناس إلى بعثته . وبعث
عيسى كذلك . وبعث
محمدا صلى الله عليه وعليهم أجمعين : أحوج ما كان أهل الأرض إلى إرساله . فهكذا وقت العبد مع الله يعمره بأنفع الأشياء له : أحوج ما كان إلى عمارته .
قوله " الوقت : ظرف الكون " الوقت : عبارة عن مقاربة حادث لحادث عند
[ ص: 124 ] المتكلمين ، فهو نسبة بين حادثين . فقوله " ظرف الكون " أي وعاء التكوين . فهو الوعاء الزماني الذي يقع فيه التكوين . كما أن ظرف المكان : هو الوعاء المكاني ، الذي يحصل فيه الجسم .
ولكن الوقت في اصطلاح القوم أخص من ذلك .
قال
أبو علي الدقاق : الوقت ما أنت فيه . فإن كنت في الدنيا فوقتك الدنيا وإن كنت بالعقبى فوقتك العقبى . وإن كنت بالسرور فوقتك السرور . وإن كنت بالحزن فوقتك الحزن .
يريد : أن الوقت ما كان الغالب على الإنسان من حاله .
وقد يريد : أن الوقت ما بين الزمانين الماضي والمستقبل . وهو اصطلاح أكثر الطائفة . ولهذا يقولون : الصوفي والفقير ابن وقته .
يريدون : أن همته لا تتعدى وظيفة عمارته بما هو أولى الأشياء به ، وأنفعها له . فهو قائم بما هو مطالب به في الحين والساعة الراهنة . فهو لا يهتم بماضي وقته وآتيه ، بل يهتم بوقته الذي هو فيه . فإن
nindex.php?page=treesubj&link=24479الاشتغال بالوقت الماضي والمستقبل يضيع الوقت الحاضر ، وكلما حضر وقت اشتغل عنه بالطرفين . فتصير أوقاته كلها فواتا .
قال الشافعي - رضي الله عنه - : صحبت الصوفية . فما انتفعت منهم إلا بكلمتين ،
[ ص: 125 ] سمعتهم يقولون : الوقت سيف . فإن قطعته وإلا قطعك . ونفسك إن لم تشغلها بالحق ، وإلا شغلتك بالباطل .
قلت : يا لهما من كلمتين ، ما أنفعهما وأجمعهما ، وأدلهما على علو همة قائلهما ، ويقظته . ويكفي في هذا ثناء الشافعي على طائفة هذا قدر كلماتهم .
وقد يريدون بالوقت : ما هو أخص من هذا كله . وهو ما يصادفهم في تصريف الحق لهم . دون ما يختارونه لأنفسهم . ويقولون : فلان بحكم الوقت . أي مستسلم لما يأتي من عند الله من غير اختيار .
وهذا يحسن في حال ، ويحرم في حال . وينقص صاحبه في حال . فيحسن في كل موضع ليس لله على العبد فيه أمر ولا نهي . بل في موضع جريان الحكم الكوني الذي لا يتعلق به أمر ولا نهي ، كالفقر والمرض ، والغربة والجوع ، والألم والحر والبرد ، ونحو ذلك .
ويحرم في الحال التي يجري عليه فيها الأمر والنهي والقيام بحقوق الشرع . فإن التضييع لذلك والاستسلام ، والاسترسال مع القدر : انسلاخ من الدين بالكلية . وينقص صاحبه في حال تقتضي قياما بالنوافل ، وأنواع البر والطاعة .
وإذا أراد الله بالعبد خيرا : أعانه بالوقت . وجعل وقته مساعدا له . وإذا أراد به شرا : جعل وقته عليه ، وناكده وقته . فكلما أراد التأهب للمسير : لم يساعده الوقت . والأول : كلما همت نفسه بالقعود أقامه الوقت وساعده .
وقد قسم بعضهم الصوفية أربعة أقسام : أصحاب السوابق ، وأصحاب العواقب ، وأصحاب الوقت ، وأصحاب الحق . قال :
فأما
nindex.php?page=treesubj&link=29411أصحاب السوابق : فقلوبهم أبدا فيما سبق لهم من الله . لعلمهم أن الحكم الأزلي لا يتغير باكتساب العبد .
ويقولون : من أقصته السوابق لم تدنه الوسائل . ففكرهم في هذا أبدا . ومع ذلك : فهم يجدون في القيام بالأوامر ، واجتناب النواهي ، والتقرب إلى الله بأنواع القرب ، غير واثقين بها ، ولا ملتفتين إليها ، ويقول قائلهم :
من أين أرضيك إلا أن توفقني هيهات هيهات ما التوفيق من قبلي
إن لم يكن لي في المقدور سابقة فليس ينفع ما قدمت من عملي
.
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=29411أصحاب العواقب : فهم متفكرون فيما يختم به أمرهم . فإن الأمور
[ ص: 126 ] بأواخرها . والأعمال بخواتيمها ، والعاقبة مستورة . كما قيل :
لا يغرنك صفا الأوقات فإن تحتها غوامض الآفات
فكم من ربيع نورت أشجاره ، وتفتحت أزهاره ، وزهت ثماره ، لم يلبث أن أصابته جائحة سماوية . فصار كما قال الله عز وجل
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=24حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها - إلى قوله -
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=24يتفكرون .
فكم من مريد كبا به جواد عزمه فخر صريعا لليدين وللفم
وقيل لبعضهم - وقد شوهد منه خلاف ما كان يعهد عليه - : ما الذي أصابك ؟ فقال : حجاب وقع ، وأنشد :
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها وعند صفو الليالي يحدث الكدر
ليس العجب ممن هلك كيف هلك ؟ إنما العجب ممن نجا كيف نجا ؟
تعجبين من سقمي صحتي هي العجب
الناكصون على أعقابهم أضعاف أضعاف من اقتحم العقبة :
خذ من الألف واحدا واطرح الكل من بعده
.
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=29411أصحاب الوقت : فلم يشتغلوا بالسوابق ، ولا بالعواقب . بل اشتغلوا بمراعاة الوقت ، وما يلزمهم من أحكامه . وقالوا : العارف ابن وقته . لا ماضي له ولا مستقبل .
ورأى بعضهم
nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق - رضي الله عنه - في منامه . فقال له : أوصني . فقال له : كن ابن وقتك .
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=29411أصحاب الحق : فهم مع صاحب الوقت والزمان ، ومالكهما ومدبرهما . مأخوذون بشهوده عن مشاهدة الأوقات . لا يتفرغون لمراعاة وقت ولا زمان . كما قيل :
لست أدري أطال ليلي أم لا كيف يدري بذاك من يتقلى
لو تفرغت لاستطالة ليلي ولرعي النجوم كنت مخلى
[ ص: 127 ] إن للعاشقين عن قصر اللي ل ، وعن طوله من العشق شغلا
قال
الجنيد : دخلت على
السري يوما . فقلت له : كيف أصبحت ؟ فأنشأ يقول :
ما في النهار ولا في الليل لي فرج فلا أبالي أطال الليل أم قصرا
ثم قال : ليس عند ربكم ليل ولا نهار .
يشير إلى أنه غير متطلع إلى الأوقات . بل هو مع الذي قدر الليل والنهار .
فَصْلٌ وَمِنْهَا
nindex.php?page=treesubj&link=24479الْوَقْتُ ، قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ :
بَابُ الْوَقْتِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=40ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى الْوَقْتُ اسْمٌ لِظَرْفِ الْكَوْنِ . وَهُوَ اسْمٌ فِي هَذَا الْبَابِ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ ، عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ . الْمَعْنَى الْأَوَّلُ : حِينَ وَجْدٍ صَادِقٍ ، لِإِينَاسِ ضِيَاءِ فَضْلٍ جَذَبَهُ صَفَاءُ رَجَاءٍ ، أَوْ لِعِصْمَةٍ جَذَبَهَا
[ ص: 123 ] صِدْقُ خَوْفٍ . أَوْ لِتَلَهُّبِ شَوْقٍ جَذَبَهُ اشْتِعَالُ مَحَبَّةٍ .
وَجْهُ اسْتِشْهَادِهِ بِالْآيَةِ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدَّرَ مَجِيءَ
مُوسَى أَحْوَجَ مَا كَانَ الْوَقْتُ إِلَيْهِ . فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ : جَاءَ فُلَانٌ عَلَى قَدَرٍ . إِذَا جَاءَ وَقْتُ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ . قَالَ
جَرِيرٌ :
نَالَ الْخِلَافَةَ إِذْ كَانَتْ عَلَى قَدَرٍ كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ
وَقَالَ
مُجَاهِدٌ : عَلَى مَوْعِدٍ . وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ . لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ بَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَبَيْنَ
مُوسَى مَوْعِدٌ لِلْمَجِيءِ ، حَتَّى يُقَالَ : إِنَّهُ أَتَى عَلَى ذَلِكَ الْمَوْعِدِ .
وَلَكِنْ وَجْهُ هَذَا : أَنَّ الْمَعْنَى : جِئْتَ عَلَى الْمَوْعِدِ الَّذِي وَعَدْنَا أَنْ نُنْجِزَهُ ، وَالْقَدَرِ الَّذِي قَدَّرْنَا أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِهِ ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=107إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=108وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَعَدَ بِإِرْسَالِ نَبِيٍّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَمْلَأُ الْأَرْضَ نُورًا وَهُدًى . فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ : عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ أَنْجَزَ ذَلِكَ الْوَعْدَ الَّذِي وَعَدَ بِهِ .
وَاسْتِشْهَادُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى مَحَلِّهِ مِنَ الْعِلْمِ . لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا وَقَعَ فِي وَقْتِهِ الَّذِي هُوَ أَلْيَقُ الْأَوْقَاتِ بِوُقُوعِهِ فِيهِ : كَانَ أَحْسَنَ وَأَنْفَعَ وَأَجْدَى . كَمَا إِذَا وَقَعَ الْغَيْثُ فِي أَحْوَجِ الْأَوْقَاتِ إِلَيْهِ . وَكَمَا إِذَا وَقَعَ الْفَرَجُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ .
وَمَنْ تَأَمَّلَ أَقْدَارَ الرَّبِّ تَعَالَى ، وَجَرَيَانَهَا فِي الْخَلْقِ : عَلِمَ أَنَّهَا وَاقِعَةٌ فِي أَلْيَقِ الْأَوْقَاتِ بِهَا .
فَبَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
مُوسَى : أَحْوَجَ مَا كَانَ النَّاسُ إِلَى بِعْثَتِهِ . وَبَعَثَ
عِيسَى كَذَلِكَ . وَبَعَثَ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ : أَحْوَجَ مَا كَانَ أَهْلُ الْأَرْضِ إِلَى إِرْسَالِهِ . فَهَكَذَا وَقْتُ الْعَبْدِ مَعَ اللَّهِ يُعَمِّرُهُ بِأَنْفَعِ الْأَشْيَاءِ لَهُ : أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَى عِمَارَتِهِ .
قَوْلُهُ " الْوَقْتُ : ظَرْفُ الْكَوْنِ " الْوَقْتُ : عِبَارَةٌ عَنْ مُقَارَبَةِ حَادِثٍ لِحَادِثٍ عِنْدَ
[ ص: 124 ] الْمُتَكَلِّمِينَ ، فَهُوَ نِسْبَةٌ بَيْنَ حَادِثَيْنِ . فَقَوْلُهُ " ظَرْفُ الْكَوْنِ " أَيْ وِعَاءُ التَّكْوِينِ . فَهُوَ الْوِعَاءُ الزَّمَانِيُّ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ التَّكْوِينُ . كَمَا أَنَّ ظَرْفَ الْمَكَانِ : هُوَ الْوِعَاءُ الْمَكَانِيُّ ، الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ الْجِسْمُ .
وَلَكِنَّ الْوَقْتَ فِي اصْطِلَاحِ الْقَوْمِ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ .
قَالَ
أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ : الْوَقْتُ مَا أَنْتَ فِيهِ . فَإِنْ كُنْتَ فِي الدُّنْيَا فَوَقْتُكَ الدُّنْيَا وَإِنْ كُنْتَ بِالْعُقْبَى فَوَقْتُكَ الْعُقْبَى . وَإِنْ كُنْتَ بِالسُّرُورِ فَوَقْتُكَ السُّرُورُ . وَإِنْ كُنْتَ بِالْحُزْنِ فَوَقْتُكَ الْحُزْنُ .
يُرِيدُ : أَنَّ الْوَقْتَ مَا كَانَ الْغَالِبَ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حَالِهِ .
وَقَدْ يُرِيدُ : أَنَّ الْوَقْتَ مَا بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ . وَهُوَ اصْطِلَاحُ أَكْثَرِ الطَّائِفَةِ . وَلِهَذَا يَقُولُونَ : الصُّوفِيُّ وَالْفَقِيرُ ابْنُ وَقْتِهِ .
يُرِيدُونَ : أَنَّ هِمَّتَهُ لَا تَتَعَدَّى وَظِيفَةَ عِمَارَتِهِ بِمَا هُوَ أَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِهِ ، وَأَنْفَعُهَا لَهُ . فَهُوَ قَائِمٌ بِمَا هُوَ مُطَالَبٌ بِهِ فِي الْحِينِ وَالسَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ . فَهُوَ لَا يَهْتَمُّ بِمَاضِي وَقْتِهِ وَآتِيهِ ، بَلْ يَهْتَمُّ بِوَقْتِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ . فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=24479الِاشْتِغَالَ بِالْوَقْتِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ يُضَيِّعُ الْوَقْتَ الْحَاضِرَ ، وَكُلَّمَا حَضَرَ وَقْتٌ اشْتَغَلَ عَنْهُ بِالطَّرَفَيْنِ . فَتَصِيرُ أَوْقَاتُهُ كُلُّهَا فَوَاتًا .
قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : صَحِبْتُ الصُّوفِيَّةَ . فَمَا انْتَفَعْتُ مِنْهُمْ إِلَّا بِكَلِمَتَيْنِ ،
[ ص: 125 ] سَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ : الْوَقْتُ سَيْفٌ . فَإِنْ قَطَعْتَهُ وَإِلَّا قَطَعَكَ . وَنَفْسُكَ إِنْ لَمْ تَشْغَلْهَا بِالْحَقِّ ، وَإِلَّا شَغَلَتْكَ بِالْبَاطِلِ .
قُلْتُ : يَا لَهُمَا مِنْ كَلِمَتَيْنِ ، مَا أَنْفَعَهُمَا وَأَجْمَعَهُمَا ، وَأَدَلَّهُمَا عَلَى عُلُوِّ هِمَّةِ قَائِلِهِمَا ، وَيَقَظَتِهِ . وَيَكْفِي فِي هَذَا ثَنَاءُ الشَّافِعِيِّ عَلَى طَائِفَةِ هَذَا قَدْرَ كَلِمَاتِهِمْ .
وَقَدْ يُرِيدُونَ بِالْوَقْتِ : مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ . وَهُوَ مَا يُصَادِفُهُمْ فِي تَصْرِيفِ الْحَقِّ لَهُمْ . دُونَ مَا يَخْتَارُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ . وَيَقُولُونَ : فُلَانٌ بِحُكْمِ الْوَقْتِ . أَيْ مُسْتَسْلِمٌ لِمَا يَأْتِي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ .
وَهَذَا يَحْسُنُ فِي حَالٍ ، وَيَحْرُمُ فِي حَالٍ . وَيُنْقِصُ صَاحِبَهُ فِي حَالٍ . فَيَحْسُنُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَيْسَ لِلَّهِ عَلَى الْعَبْدِ فِيهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ . بَلْ فِي مَوْضِعِ جَرَيَانِ الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ ، كَالْفَقْرِ وَالْمَرَضِ ، وَالْغُرْبَةِ وَالْجُوعِ ، وَالْأَلَمِ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَيَحْرُمُ فِي الْحَالِ الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهِ فِيهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْقِيَامُ بِحُقُوقِ الشَّرْعِ . فَإِنَّ التَّضْيِيعَ لِذَلِكَ وَالِاسْتِسْلَامَ ، وَالِاسْتِرْسَالَ مَعَ الْقَدَرِ : انْسِلَاخٌ مِنَ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ . وَيُنْقِصُ صَاحِبَهُ فِي حَالٍ تَقْتَضِي قِيَامًا بِالنَّوَافِلِ ، وَأَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالطَّاعَةِ .
وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالْعَبْدِ خَيْرًا : أَعَانَهُ بِالْوَقْتِ . وَجَعَلَ وَقْتَهَ مُسَاعِدًا لَهُ . وَإِذَا أَرَادَ بِهِ شَرًّا : جَعَلَ وَقْتَهُ عَلَيْهِ ، وَنَاكَدَهُ وَقْتَهُ . فَكُلَّمَا أَرَادَ التَّأَهُّبَ لِلْمَسِيرِ : لَمْ يُسَاعِدْهُ الْوَقْتُ . وَالْأَوَّلُ : كُلَّمَا هَمَّتْ نَفْسُهُ بِالْقُعُودِ أَقَامَهُ الْوَقْتُ وَسَاعَدَهُ .
وَقَدْ قَسَّمَ بَعْضُهُمُ الصُّوفِيَّةَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : أَصْحَابُ السَّوَابِقِ ، وَأَصْحَابُ الْعَوَاقِبِ ، وَأَصْحَابُ الْوَقْتِ ، وَأَصْحَابُ الْحَقِّ . قَالَ :
فَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=29411أَصْحَابُ السَّوَابِقِ : فَقُلُوبُهُمْ أَبَدًا فِيمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ . لِعِلْمِهِمْ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَزَلِيَّ لَا يَتَغَيَّرُ بِاكْتِسَابِ الْعَبْدِ .
وَيَقُولُونَ : مَنْ أَقْصَتْهُ السَّوَابِقُ لَمْ تُدْنِهِ الْوَسَائِلُ . فَفِكْرُهُمْ فِي هَذَا أَبَدًا . وَمَعَ ذَلِكَ : فَهُمْ يَجِدُّونَ فِي الْقِيَامِ بِالْأَوَامِرِ ، وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِأَنْوَاعِ الْقُرَبِ ، غَيْرَ وَاثِقِينَ بِهَا ، وَلَا مُلْتَفِتِينَ إِلَيْهَا ، وَيَقُولُ قَائِلُهُمْ :
مِنْ أَيْنَ أُرْضِيكَ إِلَّا أَنْ تُوَفِّقَنِي هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ مَا التَّوْفِيقُ مِنْ قِبَلِي
إِنْ لَمْ يَكُنْ لِي فِي الْمَقْدُورِ سَابِقَةٌ فَلَيْسَ يَنْفَعُ مَا قَدَّمْتُ مِنْ عَمَلِي
.
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=29411أَصْحَابُ الْعَوَاقِبِ : فَهُمْ مُتَفَكِّرُونَ فِيمَا يُخْتَمُ بِهِ أَمْرُهُمْ . فَإِنَّ الْأُمُورَ
[ ص: 126 ] بِأَوَاخِرِهَا . وَالْأَعْمَالَ بِخَوَاتِيمِهَا ، وَالْعَاقِبَةَ مَسْتُورَةٌ . كَمَا قِيلَ :
لَا يَغُرَّنَّكَ صَفَا الْأَوْقَاتِ فَإِنَّ تَحْتَهَا غَوَامِضَ الْآفَاتِ
فَكَمْ مِنْ رَبِيعٍ نَوَّرَتْ أَشْجَارُهُ ، وَتَفَتَّحَتْ أَزْهَارُهُ ، وَزَهَتْ ثِمَارُهُ ، لَمْ يَلْبَثْ أَنْ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ سَمَاوِيَّةٌ . فَصَارَ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=24حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا - إِلَى قَوْلِهِ -
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=24يَتَفَكَّرُونَ .
فَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ كَبَا بِهِ جَوَادُ عَزْمِهِ فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ
وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ - وَقَدْ شُوهِدَ مِنْهُ خِلَافُ مَا كَانَ يُعْهَدُ عَلَيْهِ - : مَا الَّذِي أَصَابَكَ ؟ فَقَالَ : حِجَابٌ وَقَعَ ، وَأَنْشَدَ :
أَحْسَنْتَ ظَنَّكَ بِالْأَيَّامِ إِذْ حَسُنَتْ وَلَمْ تَخَفْ سُوءَ مَا يَأْتِي بِهِ الْقَدَرُ
وَسَالَمَتْكَ اللَّيَالِي فَاغْتَرَرْتَ بِهَا وَعِنْدَ صَفْوِ اللَّيَالِي يَحْدُثُ الْكَدَرُ
لَيْسَ الْعَجَبُ مِمَّنْ هَلَكَ كَيْفَ هَلَكَ ؟ إِنَّمَا الْعَجَبُ مِمَّنْ نَجَا كَيْفَ نَجَا ؟
تَعْجَبِينَ مِنْ سَقَمِي صِحَّتِي هِيَ الْعَجَبُ
النَّاكِصُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَنِ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ :
خُذْ مِنَ الْأَلْفِ وَاحِدًا وَاطَّرِحِ الْكُلَّ مِنْ بَعْدِهِ
.
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=29411أَصْحَابُ الْوَقْتِ : فَلَمْ يَشْتَغِلُوا بِالسَّوَابِقِ ، وَلَا بِالْعَوَاقِبِ . بَلِ اشْتَغَلُوا بِمُرَاعَاةِ الْوَقْتِ ، وَمَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ أَحْكَامِهِ . وَقَالُوا : الْعَارِفُ ابْنُ وَقْتِهِ . لَا مَاضِيَ لَهُ وَلَا مُسْتَقْبَلَ .
وَرَأَى بَعْضُهُمُ
nindex.php?page=showalam&ids=1الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَنَامِهِ . فَقَالَ لَهُ : أَوْصِنِي . فَقَالَ لَهُ : كُنِ ابْنَ وَقْتِكَ .
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=29411أَصْحَابُ الْحَقِّ : فَهُمْ مَعَ صَاحِبِ الْوَقْتِ وَالزَّمَانِ ، وَمَالِكِهِمَا وَمُدَبِّرِهِمَا . مَأْخُوذُونَ بِشُهُودِهِ عَنْ مُشَاهَدَةِ الْأَوْقَاتِ . لَا يَتَفَرَّغُونَ لِمُرَاعَاةِ وَقْتٍ وَلَا زَمَانٍ . كَمَا قِيلَ :
لَسْتُ أَدْرِي أَطَالَ لَيْلِي أَمْ لَا كَيْفَ يَدْرِي بِذَاكَ مَنْ يَتَقَلَّى
لَوْ تَفَرَّغْتُ لِاسْتِطَالَةِ لَيْلِي وَلِرَعْيِ النُّجُومِ كُنْتُ مُخَلَّى
[ ص: 127 ] إِنَّ لِلْعَاشِقِينَ عَنْ قِصَرِ اللَّيْ لِ ، وَعَنْ طُولِهِ مِنَ الْعِشْقِ شُغْلَا
قَالَ
الْجُنَيْدُ : دَخَلْتُ عَلَى
السَّرِيِّ يَوْمًا . فَقُلْتُ لَهُ : كَيْفَ أَصْبَحْتَ ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ :
مَا فِي النَّهَارِ وَلَا فِي اللَّيْلِ لِي فَرَجٌ فَلَا أُبَالِي أَطَالَ اللَّيْلُ أَمْ قَصُرَا
ثُمَّ قَالَ : لَيْسَ عِنْدَ رَبِّكُمْ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ .
يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُتَطَلِّعٍ إِلَى الْأَوْقَاتِ . بَلْ هُوَ مَعَ الَّذِي قَدَّرَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارِ .