31 - ( فصل )
في
nindex.php?page=treesubj&link=15306_15317_15328_15305مذاهب أهل المدينة في الدعاوى وهو من أسد المذاهب وأصحها ، وهي عندهم ثلاث مراتب : المرتبة الأولى : دعوى يشهد لها العرف بأنها مشبهة ، أي تشبه أن تكون حقا .
المرتبة الثانية : ما يشهد العرف بأنها غير مشبهة ، إلا أنه لم يقض بكذبها .
المرتبة الثالثة : دعوى يقضي العرف بكذبها .
فأما المرتبة الأولى : فمثل أن
nindex.php?page=treesubj&link=15306_15284يدعي سلعة معينة بيد رجل ، أو يدعي غريب وديعة عند غيره ، أو يدعي مسافر : أنه أودع أحد رفقته ، وكالمدعي على صانع منتصب للعمل : أنه دفع إليه متاعا يصنعه ، والمدعي على بعض أهل الأسواق المنتصبين للبيع والشراء : أنه باع منه أو اشترى ، وكالرجل
nindex.php?page=treesubj&link=15356_26669_15222يذكر في مرض موته : أن له دينا قبل رجل ، ويوصي أن يتقاضى منه فينكره وما أشبه هذه المسائل . فهذه الدعوى تسمع من مدعيها ، وله أن يقيم البينة على مطابقتها ، أو يستحلف المدعى عليه ، ولا يحتاج في استحلافه إلى إثبات خلطة .
وأما المرتبة الثانية : فمثل أن يدعي على رجل دينا في ذمته ، ليس داخلا في الصور المتقدمة ، أو
nindex.php?page=treesubj&link=20319_15284_15356يدعي على رجل معروف بكثرة المال : أنه اقترض منه مالا ينفقه على عياله ، أو يدعي على رجل ، لا معرفة بينه وبينه ألبتة : أنه أقرضه أو باعه شيئا بثمن في ذمته إلى أجل ونحو ذلك . فهذه الدعوى تسمع ، ولمدعيها أن يقيم البينة على مطابقتها .
قالوا : ولا يملك استحلال المدعى عليه على نفيها إلا بإثبات خلطة بينه وبينه قال
ابن القاسم : والخلطة أن يسالفه ، أو يبايعه أو يشتري منه مرارا .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15968سحنون : لا تكون الخلطة إلا بالبيع والشراء بين المتداعيين . قالوا : ينظر إلى دعوى المدعي .
فإن كانت تشبه أن يدعى بمثلها على المدعى عليه : أحلف له ، وإن كانت مما لا تشبه ، وينفيها العرف : لم يحلف إلا أن يبين المدعى عليه خلطة .
قالوا : فإن لم تكن خلطة ، وكان المدعى عليه متهما ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=15968سحنون : يستحلف المتهم ، وإن لم تكن خلطة ، وقال غيره : لا يستحلف .
[ ص: 79 ] وتثبت الخلطة عندهم بإقرار المدعى عليه بها وبالشاهدين ، والشاهد واليمين ، والرجل الواحد ، والمرأة الواحدة .
قالوا : وأما المرتبة الثالثة فمثالها : أن يكون رجل
nindex.php?page=treesubj&link=25635_15317_15286حائزا لدار ، متصرفا فيها السنين الطويلة بالبناء والهدم والإجارة والعمارة ، وينسبها إلى نفسه ، ويضيفها إلى ملكه ، وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة ، وهو مع ذلك لا يعارضه فيها ، ولا يذكر أنه له فيها حقا ، ولا مانع يمنعه من مطالبته كخوف من سلطان ، أو ما أشبه ذلك من الضرر المانع من المطالبة بالحقوق ، ولا بينه وبين المتصرف في الدار قرابة ، ولا شركة في ميراث ، أو ما شبه ذلك مما تتسامح فيه القرابات والصهر بينهم ، بل كان عريا من جميع ذلك . ثم جاء بعد طول هذه المدة يدعيها لنفسه ، ويزعم أنها له ، ويريد أن يقيم بذلك بينة .
فدعواه غير مسموعة أصلا ، فضلا عن بينته وتبقى الدار بيد حائزها ، لأن كل دعوى يكذبها العرف وتنفيها العادة فإنها مرفوضة غير مسموعة .
قال الله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=199وأمر بالعرف } ، وقد أوجبت الشريعة الرجوع إليه عند الاختلاف في الدعاوى ، كالنقد والحمولة والسير ، وفي الأبنية ومعاقد القمط ، ووضع الجذوع على الحائط وغير ذلك .
قالوا : ومثل ذلك : أن تأتي
nindex.php?page=treesubj&link=25635_15317_15286_16327المرأة بعد سنين متطاولة تدعي على الزوج أنه لم يكسها في شتاء ولا صيف ، ولا أنفق عليها شيئا .
فهذه الدعوى لا تسمع لتكذيب العرف والعادة لها ، ولا سيما إذا كانت فقيرة والزوج موسر .
ومن ذلك : قول القاضي
عبد الوهاب في رده على
nindex.php?page=showalam&ids=15215المزني : مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك : أن المدعى عليه لا يحلف للمدعي بمجرد دعواه ، دون أن ينضم إليها علم بمخالطة بينهما أو معاملة .
قال شيخنا
أبو بكر : أو تكون الدعوى تليق بالمدعى عليه ، لا يتناكرها الناس ، ولا ينفيها عرف . قال : وهذا مروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب ،
nindex.php?page=showalam&ids=16673وعمر بن عبد العزيز ، وعن فقهاء
المدينة السبعة . قال : والدليل على صحته : أنه قد ثبت وتقرر أن الإقدام على اليمين يصعب ، ويثقل على كثير من الناس ، سيما على أهل الدين وذوي المروءات والأقدار ، وهذا أمر معتاد بين الناس على ممر الأعصار ، لا يمكن جحده .
وكذلك روي عن جماعة من الصحابة : أنهم افتدوا أيمانهم ، منهم :
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان ،
nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود وغيرهما ، وإنما فعلوا ذلك لمروءتهم ، ولئلا تسبق الظلمة إليهم إذا حلفوا ، فمن يعادي الحالف ، ويحب الطعن
[ ص: 80 ] عليه ، يجد طريقا إلى ذلك ، لعظم شأن اليمين وعظم خطرها ، ولهذا جعلت
بالمدينة عند المنبر ، وأن يكون ما يحلف عليه عنده مما له حرمة ، كربع دينار فصاعدا ، فلو مكن كل مدع أن يحلف المدعى عليه بمجرد دعواه لكان ذلك ذريعة إلى امتهان أهل المروءات وذوي الأقدار والأخطار والديانات لمن يريد التشفي منهم ، لأنه لا يجد أقرب ولا أخف كلفة من أن يقدم الواحد منهم من يعاديه من أهل الدين والفضل إلى مجلس الحاكم ليدعي عليه ما يعلم أنه لا ينهض به ، أو لا يعترف ، ليتشفى منه بتبذله وإحلافه ، وأن يراه الناس بصورة من أقدم على اليمين عند الحاكم ، ومن يريد أن يأخذ من أحد من هؤلاء شيئا على طريق الظلم والعدوان وجد إليه سبيلا ، لعله يفتدي يمينه منه ، لئلا ينقص قدره في أعين الناس ، وكلا الأمرين موجود في الناس اليوم .
قال : وقد شاهدنا من ذلك كثيرا ، وحضرناه ، وأصابنا بعضه ، فكان ما ذهب إليه
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك ومن تقدمه من الصحابة والتابعين : حراسة لمروآت الناس ، وحفظا لها من الضرر اللاحق بهم ، والأذى المتطرق إليهم .
فإذا قويت دعوى المدعي بمخالطة أو معاملة ضعفت التهمة ، وقوي في النفس أن مقصوده غير ذلك ، فأحلف له ، ولهذا لم يعتبر ذلك الغريب ، لأن الغربة لا تكاد تلحق المروءة فيها ما يلحقها في الوطن .
فإن قيل : فيجب ألا يحضره مجلس الحاكم أيضا ، لأن في ذلك امتهانا له وابتذالا . قيل له : حضوره مجلس الحاكم ، لا عار فيه ، ولا نقص يلحق من حضوره ، لأن الناس يحضرونه ابتداء في حوائج لهم ومهمات ، وإنما العار الإقدام على اليمين ، لما ذكرناه .
وأيضا ، فإنه يمكن المدعي من إحضاره ، لعله يقيم عليه البينة ، ولا يقطعه عن حقه .
فإن قيل : فاليمين الصادقة لا عار فيها ، وقد حلف
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب وغيره من السلف .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=7لعثمان بن عفان ، لما بلغه أنه افتدى يمينه " ما منعك أن تحلف إذا كنت صادقا ؟ " .
قيل : مكابرة العادات لا معنى لها ، وأقرب ما يبطل به قولهم : ما ذكرناه من افتداء كثير من الصحابة والسلف أيمانهم ، وليس ذلك إلا لصرف الظلمة عنهم ، وألا تتطرق إليهم تهمة ، وما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر : إنما هو لتقوية نفس
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان ، وأنه إذا حلف صادقا فهو مصيب في الشرع ، ليضعف بذلك نفوس من يريد الإعنات ، ويطمع في أموال الناس بادعاء المحال ، ليفتدوا أيمانهم منهم بأموالهم .
[ ص: 81 ]
وأيضا : فإن أرادوا أن اليمين الصادقة لا عار فيها عند الله تعالى : فصحيح ، ولكن ليس كل ما لم يكن عارا عند الله لم يكن عارا في العادة ، ونحن نعلم أن المباح لا عار فيه عند الله ، هذا إذا علم كون اليمين صادقا ، وكلامنا في يمين مطلقة لا يعلم باطنها .
قال : ودليل آخر ، وهو أن الأخذ بالعرف واجب ، لقوله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=199وأمر بالعرف } .
ومعلوم أن من كانت دعواه ينفيها العرف ، فإن الظن قد سبق إليه في دعواه بالبطلان ، كبقال يدعي على خليفة أو أمير ما لا يليق بمثله شراؤه ، أو تطرق تلك الدعوى عليه .
قلت : ومما يشهد لذلك ويقويه : قول
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود الذي رواه عنه الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد وغيره - وهو ثابت عنه - : " إن الله نظر في قلوب العباد ، فرأى قلب
محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد ، فاختاره لرسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعده ، فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبته ، فما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رآه المؤمنون قبيحا فهو عند الله قبيح " .
ولا ريب أن المؤمنين - بل وغيرهم - يرون من القبيح : أن تسمع دعوى البقال على الخليفة أو الأمير : أنه باعه بمائة دينار ولم يوفه إياها ، أو أنه اقترض منه ألف دينار أو نحوها ، أو أنه تزوج ابنته الشوهاء ، ودخل بها ، ولم يعطها مهرها .
أو تدعي امرأة مكثت مع الزوج ستين سنة أو نحوها : أنه لم ينفق عليها يوما واحدا ، ولا كساها خيطا ، وهو يشاهد داخلا وخارجا إليها بأنواع الطعام والفواكه فتسمع دعواها ويحلف لها ، ويحبس على ذلك كله .
أو تسمع دعوى الذاعر الهارب وبيده عمامة لها ذؤابة ، وعلى رأسه عمامة ، وخلفه عالم مكشوف الرأس ، فيدعي الذاعر أن العمامة له ، فتسمع دعواه ، ويحكم له بها بحكم اليد .
أو يدعي رجل معروف بالفجور وأذى الناس على رجل مشهور بالديانة والصلاح : أنه نقب بيته وسرق متاعه ، فتسمع دعواه ويستحلف له ، فإن نكل قضي عليه .
أو يدعي رجل معروف بالشحاذة وسؤال الناس : أنه أقرض تاجرا من أكبر التجار مائة ألف دينار ، أو أنه غصبها منه ، أو أن ثياب التاجر التي هي عليه ملك الشحاذ شلحه إياها ، أو غصبها منه ، ونحو ذلك من الدعاوى التي شهد الناس بفطرهم وعقولهم : أنها من أعظم الباطل ، فهذه لا تسمع ، ولا يحلف فيها المدعى عليه ، ويعزر المدعي تعزير أمثاله .
وهذا الذي تقتضيه الشريعة التي مبناها على الصدق والعدل ، كما قال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=115وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ، لا مبدل لكلماته } فالشريعة المنزلة من عند الله لا تصدق كاذبا ، ولا تنصر ظالما .
31 - ( فَصْلٌ )
فِي
nindex.php?page=treesubj&link=15306_15317_15328_15305مَذَاهِبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الدَّعَاوَى وَهُوَ مِنْ أَسَدِّ الْمَذَاهِبِ وَأَصَحِّهَا ، وَهِيَ عِنْدَهُمْ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ : الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى : دَعْوَى يَشْهَدُ لَهَا الْعُرْفُ بِأَنَّهَا مُشْبِهَةٌ ، أَيْ تُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ حَقًّا .
الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ : مَا يَشْهَدُ الْعُرْفُ بِأَنَّهَا غَيْرُ مُشْبِهَةٍ ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُقْضَ بِكَذِبِهَا .
الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ : دَعْوَى يَقْضِي الْعُرْفُ بِكَذِبِهَا .
فَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى : فَمِثْلُ أَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=15306_15284يَدَّعِيَ سِلْعَةً مُعَيَّنَةً بِيَدِ رَجُلٍ ، أَوْ يَدَّعِيَ غَرِيبٌ وَدِيعَةً عِنْدَ غَيْرِهِ ، أَوْ يَدَّعِيَ مُسَافِرٌ : أَنَّهُ أَوْدَعَ أَحَدَ رُفْقَتِهِ ، وَكَالْمُدَّعِي عَلَى صَانِعٍ مُنْتَصِبٍ لِلْعَمَلِ : أَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ مَتَاعًا يَصْنَعُهُ ، وَالْمُدَّعِي عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْأَسْوَاقِ الْمُنْتَصِبِينَ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ : أَنَّهُ بَاعَ مِنْهُ أَوْ اشْتَرَى ، وَكَالرَّجُلِ
nindex.php?page=treesubj&link=15356_26669_15222يَذْكُرُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ : أَنَّ لَهُ دَيْنًا قِبَلَ رَجُلٍ ، وَيُوصِي أَنْ يُتَقَاضَى مِنْهُ فَيُنْكِرُهُ وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ . فَهَذِهِ الدَّعْوَى تُسْمَعُ مِنْ مُدَّعِيهَا ، وَلَهُ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مُطَابَقَتِهَا ، أَوْ يَسْتَحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَلَا يَحْتَاجُ فِي اسْتِحْلَافِهِ إلَى إثْبَاتِ خُلْطَةٍ .
وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ : فَمِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى رَجُلٍ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ، لَيْسَ دَاخِلًا فِي الصُّوَرِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، أَوْ
nindex.php?page=treesubj&link=20319_15284_15356يَدَّعِيَ عَلَى رَجُلٍ مَعْرُوفٍ بِكَثْرَةِ الْمَالِ : أَنَّهُ اقْتَرَضَ مِنْهُ مَالًا يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ ، أَوْ يَدَّعِيَ عَلَى رَجُلٍ ، لَا مَعْرِفَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَلْبَتَّةَ : أَنَّهُ أَقْرَضَهُ أَوْ بَاعَهُ شَيْئًا بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ إلَى أَجَلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذِهِ الدَّعْوَى تُسْمَعُ ، وَلِمُدَّعِيهَا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مُطَابَقَتِهَا .
قَالُوا : وَلَا يَمْلِكُ اسْتِحْلَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى نَفْيِهَا إلَّا بِإِثْبَاتِ خُلْطَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَالَ
ابْنُ الْقَاسِمِ : وَالْخُلْطَةُ أَنْ يُسَالِفَهُ ، أَوْ يُبَايِعَهُ أَوْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ مِرَارًا .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=15968سَحْنُونٌ : لَا تَكُونُ الْخُلْطَةُ إلَّا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ . قَالُوا : يُنْظَرُ إلَى دَعْوَى الْمُدَّعِي .
فَإِنْ كَانَتْ تُشْبِهُ أَنْ يُدَّعَى بِمِثْلِهَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ : أُحْلِفَ لَهُ ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا تُشْبِهُ ، وَيَنْفِيهَا الْعُرْفُ : لَمْ يَحْلِفْ إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خُلْطَةً .
قَالُوا : فَإِنْ لَمْ تَكُنْ خُلْطَةً ، وَكَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُتَّهَمًا ، فَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=15968سَحْنُونٌ : يُسْتَحْلَفُ الْمُتَّهَمُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ خُلْطَةً ، وَقَالَ غَيْرُهُ : لَا يُسْتَحْلَف .
[ ص: 79 ] وَتَثْبُتُ الْخُلْطَةُ عِنْدَهُمْ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِهَا وَبِالشَّاهِدَيْنِ ، وَالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، وَالرَّجُلِ الْوَاحِدِ ، وَالْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ .
قَالُوا : وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ فَمِثَالُهَا : أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ
nindex.php?page=treesubj&link=25635_15317_15286حَائِزًا لِدَارٍ ، مُتَصَرِّفًا فِيهَا السِّنِينَ الطَّوِيلَةَ بِالْبِنَاءِ وَالْهَدْمِ وَالْإِجَارَةٍ وَالْعِمَارَةِ ، وَيَنْسُبُهَا إلَى نَفْسِهِ ، وَيُضِيفُهَا إلَى مِلْكِهِ ، وَإِنْسَانٌ حَاضِرٌ يَرَاهُ وَيُشَاهِدُ أَفْعَالَهُ فِيهَا طُولَ هَذِهِ الْمُدَّةِ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يُعَارِضُهُ فِيهَا ، وَلَا يَذْكُرُ أَنَّهُ لَهُ فِيهَا حَقًّا ، وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُهُ مِنْ مُطَالَبَتِهِ كَخَوْفٍ مِنْ سُلْطَانٍ ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ الْمَانِعِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِالْحُقُوقِ ، وَلَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُتَصَرِّفِ فِي الدَّارِ قَرَابَةَ ، وَلَا شَرِكَةَ فِي مِيرَاثٍ ، أَوْ مَا شِبْهُ ذَلِكَ مِمَّا تَتَسَامَحُ فِيهِ الْقَرَابَاتُ وَالصِّهْرُ بَيْنَهُمْ ، بَلْ كَانَ عُرْيًا مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ . ثُمًّ جَاءَ بَعْدَ طُولِ هَذِهِ الْمُدَّةِ يَدَّعِيهَا لِنَفْسِهِ ، وَيَزْعُمُ أَنَّهَا لَهُ ، وَيُرِيدُ أَنْ يُقِيمَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً .
فَدَعْوَاهُ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ أَصْلًا ، فَضْلًا عَنْ بَيِّنَتِهِ وَتَبْقَى الدَّارُ بِيَدِ حَائِزِهَا ، لِأَنَّ كُلَّ دَعْوَى يُكَذِّبُهَا الْعُرْفُ وَتَنْفِيهَا الْعَادَةُ فَإِنَّهَا مَرْفُوضَةٌ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=199وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ } ، وَقَدْ أَوْجَبَتْ الشَّرِيعَةُ الرُّجُوعَ إلَيْهِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الدَّعَاوَى ، كَالنَّقْدِ وَالْحُمُولَةِ وَالسَّيْرِ ، وَفِي الْأَبْنِيَةِ وَمَعَاقِدِ الْقُمُطِ ، وَوَضْعِ الْجُذُوعِ عَلَى الْحَائِطِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
قَالُوا : وَمِثْلُ ذَلِكَ : أَنْ تَأْتِيَ
nindex.php?page=treesubj&link=25635_15317_15286_16327الْمَرْأَةُ بَعْدَ سِنِينَ مُتَطَاوِلَةٍ تَدَّعِي عَلَى الزَّوْجِ أَنَّهُ لَمْ يَكْسُهَا فِي شِتَاءٍ وَلَا صَيْفٍ ، وَلَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا شَيْئًا .
فَهَذِهِ الدَّعْوَى لَا تُسْمَعُ لِتَكْذِيبِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لَهَا ، وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ فَقِيرَةً وَالزَّوْجُ مُوسِرٌ .
وَمِنْ ذَلِكَ : قَوْلُ الْقَاضِي
عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي رَدِّهِ عَلَى
nindex.php?page=showalam&ids=15215الْمُزَنِيِّ : مَذْهَبُ
nindex.php?page=showalam&ids=16867مَالِكٍ : أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَحْلِفُ لِلْمُدَّعِي بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ ، دُونَ أَنْ يَنْضَمَّ إلَيْهَا عِلْمٌ بِمُخَالَطَةٍ بَيْنَهُمَا أَوْ مُعَامَلَةٍ .
قَالَ شَيْخُنَا
أَبُو بَكْرٍ : أَوْ تَكُونُ الدَّعْوَى تَلِيقُ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، لَا يَتَنَاكَرُهَا النَّاسُ ، وَلَا يَنْفِيهَا عُرْفٌ . قَالَ : وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=8عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ،
nindex.php?page=showalam&ids=16673وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَعَنْ فُقَهَاءِ
الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ . قَالَ : وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ : أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ وَتَقَرَّرَ أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْيَمِينِ يَصْعُبُ ، وَيَثْقُلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ ، سِيَّمَا عَلَى أَهْلِ الدِّينِ وَذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَالْأَقْدَارِ ، وَهَذَا أَمْرٌ مُعْتَادٌ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى مَمَرِّ الْأَعْصَارِ ، لَا يُمْكِنُ جَحْدُهُ .
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ : أَنَّهُمْ افْتَدَوْا أَيْمَانَهُمْ ، مِنْهُمْ :
nindex.php?page=showalam&ids=7عُثْمَانُ ،
nindex.php?page=showalam&ids=10وَابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا ، وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ لِمُرُوءَتِهِمْ ، وَلِئَلَّا تَسْبِقَ الظَّلَمَةُ إلَيْهِمْ إذَا حَلَفُوا ، فَمَنْ يُعَادِي الْحَالِفَ ، وَيُحِبُّ الطَّعْنَ
[ ص: 80 ] عَلَيْهِ ، يَجِدُ طَرِيقًا إلَى ذَلِكَ ، لِعِظَمِ شَأْنِ الْيَمِينِ وَعِظَمِ خَطَرِهَا ، وَلِهَذَا جُعِلَتْ
بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ، وَأَنْ يَكُونَ مَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ عِنْدَهُ مِمَّا لَهُ حُرْمَةٌ ، كَرُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا ، فَلَوْ مُكِّنَ كُلُّ مُدَّعٍ أَنْ يُحَلِّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ لَكَانَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى امْتِهَانِ أَهْلِ الْمُرُوءَاتِ وَذَوِي الْأَقْدَارِ وَالْأَخْطَارِ وَالدِّيَانَاتِ لِمَنْ يُرِيدُ التَّشَفِّيَ مِنْهُمْ ، لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ أَقْرَبَ وَلَا أَخَفَّ كُلْفَةٍ مِنْ أَنْ يُقَدِّمَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مَنْ يُعَادِيهِ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْفَضْلِ إلَى مَجْلِسِ الْحَاكِمِ لِيَدَّعِيَ عَلَيْهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْهَضُ بِهِ ، أَوْ لَا يَعْتَرِفُ ، لِيَتَشَفَّى مِنْهُ بِتَبَذُّلِهِ وَإِحْلَافِهِ ، وَأَنْ يَرَاهُ النَّاسُ بِصُورَةِ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ عِنْدَ الْحَاكِمِ ، وَمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا عَلَى طَرِيقِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ وَجَدَ إلَيْهِ سَبِيلًا ، لَعَلَّهُ يَفْتَدِي يَمِينَهُ مِنْهُ ، لِئَلَّا يَنْقُصَ قَدْرُهُ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مَوْجُودٌ فِي النَّاسِ الْيَوْمَ .
قَالَ : وَقَدْ شَاهَدْنَا مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا ، وَحَضَرْنَاهُ ، وَأَصَابَنَا بَعْضُهُ ، فَكَانَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ
nindex.php?page=showalam&ids=16867مَالِكٌ وَمَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ : حِرَاسَةً لِمُرُوآتِ النَّاسِ ، وَحِفْظًا لَهَا مِنْ الضَّرَرِ اللَّاحِقِ بِهِمْ ، وَالْأَذَى الْمُتَطَرِّقِ إلَيْهِمْ .
فَإِذَا قَوِيَتْ دَعْوَى الْمُدَّعِي بِمُخَالَطَةٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ ضَعُفَتْ التُّهْمَةُ ، وَقَوِيَ فِي النَّفْسِ أَنَّ مَقْصُودَهُ غَيْرُ ذَلِكَ ، فَأُحْلِفَ لَهُ ، وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ الْغَرِيبُ ، لِأَنَّ الْغُرْبَةَ لَا تَكَادُ تَلْحَقُ الْمُرُوءَةَ فِيهَا مَا يَلْحَقُهَا فِي الْوَطَنِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَيَجِبُ أَلَّا يُحْضِرَهُ مَجْلِسَ الْحَاكِمِ أَيْضًا ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ امْتِهَانًا لَهُ وَابْتِذَالًا . قِيلَ لَهُ : حُضُورُهُ مَجْلِسَ الْحَاكِمِ ، لَا عَارَ فِيهِ ، وَلَا نَقْصَ يَلْحَقُ مِنْ حُضُورِهِ ، لِأَنَّ النَّاسَ يَحْضُرُونَهُ ابْتِدَاءً فِي حَوَائِجَ لَهُمْ وَمُهِمَّاتٍ ، وَإِنَّمَا الْعَارُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْيَمِينِ ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَأَيْضًا ، فَإِنَّهُ يُمَكِّنُ الْمُدَّعِي مِنْ إحْضَارِهِ ، لَعَلَّهُ يُقِيمُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ ، وَلَا يَقْطَعُهُ عَنْ حَقِّهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَالْيَمِينُ الصَّادِقَةُ لَا عَارَ فِيهَا ، وَقَدْ حَلَفَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=7لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُ افْتَدَى يَمِينَهُ " مَا مَنَعَك أَنْ تَحْلِفَ إذَا كُنْت صَادِقًا ؟ " .
قِيلَ : مُكَابَرَةُ الْعَادَاتِ لَا مَعْنَى لَهَا ، وَأَقْرَبُ مَا يَبْطُلُ بِهِ قَوْلُهُمْ : مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ افْتِدَاءِ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ أَيْمَانَهُمْ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِصَرْفِ الظَّلَمَةِ عَنْهُمْ ، وَأَلَّا تَتَطَرَّقَ إلَيْهِمْ تُهْمَةٌ ، وَمَا رُوِيَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ : إنَّمَا هُوَ لِتَقْوِيَةِ نَفْسِ
nindex.php?page=showalam&ids=7عُثْمَانَ ، وَأَنَّهُ إذَا حَلَفَ صَادِقًا فَهُوَ مُصِيبٌ فِي الشَّرْعِ ، لِيُضْعِفَ بِذَلِكَ نُفُوسَ مَنْ يُرِيدُ الْإِعْنَاتَ ، وَيَطْمَعُ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ بِادِّعَاءِ الْمُحَالِ ، لِيَفْتَدُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْهُمْ بِأَمْوَالِهِمْ .
[ ص: 81 ]
وَأَيْضًا : فَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ الْيَمِينَ الصَّادِقَةَ لَا عَارَ فِيهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى : فَصَحِيحٌ ، وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ عَارًا عِنْدَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ عَارًا فِي الْعَادَةِ ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْمُبَاحَ لَا عَارَ فِيهِ عِنْدَ اللَّهِ ، هَذَا إذَا عُلِمَ كَوْنُ الْيَمِينِ صَادِقًا ، وَكَلَامُنَا فِي يَمِينٍ مُطْلَقَةٍ لَا يُعْلَمُ بَاطِنُهَا .
قَالَ : وَدَلِيلٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّ الْأَخْذَ بِالْعُرْفِ وَاجِبٌ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=199وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ } .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كَانَتْ دَعْوَاهُ يَنْفِيهَا الْعُرْفُ ، فَإِنَّ الظَّنَّ قَدْ سَبَقَ إلَيْهِ فِي دَعْوَاهُ بِالْبُطْلَانِ ، كَبَقَّالٍ يَدَّعِي عَلَى خَلِيفَةٍ أَوْ أَمِيرٍ مَا لَا يَلِيقُ بِمِثْلِهِ شِرَاؤُهُ ، أَوْ تَطَرُّقُ تِلْكَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ .
قُلْت : وَمِمَّا يَشْهَدُ لِذَلِكَ وَيُقَوِّيهِ : قَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=10عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ الْإِمَامُ
nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ - وَهُوَ ثَابِتٌ عَنْهُ - : " إنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ ، فَرَأَى قَلْبَ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ ، فَاخْتَارَهُ لِرِسَالَتِهِ ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَهُ ، فَرَأَى قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاخْتَارَهُمْ لِصُحْبَتِهِ ، فَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ ، وَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ " .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ - بَلْ وَغَيْرَهُمْ - يَرَوْنَ مِنْ الْقَبِيحِ : أَنْ تُسْمَعَ دَعْوَى الْبَقَّالِ عَلَى الْخَلِيفَةِ أَوْ الْأَمِيرِ : أَنَّهُ بَاعَهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَلَمْ يُوَفِّهِ إيَّاهَا ، أَوْ أَنَّهُ اقْتَرَضَ مِنْهُ أَلْفَ دِينَارٍ أَوْ نَحْوَهَا ، أَوْ أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَتَهُ الشَّوْهَاءَ ، وَدَخَلَ بِهَا ، وَلَمْ يُعْطِهَا مَهْرَهَا .
أَوْ تَدَّعِي امْرَأَةٌ مَكَثَتْ مَعَ الزَّوْجِ سِتِّينَ سَنَةً أَوْ نَحْوَهَا : أَنَّهُ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا يَوْمًا وَاحِدًا ، وَلَا كَسَاهَا خَيْطًا ، وَهُوَ يُشَاهَدُ دَاخِلًا وَخَارِجًا إلَيْهَا بِأَنْوَاعِ الطَّعَامِ وَالْفَوَاكِهِ فَتُسْمَعُ دَعْوَاهَا وَيُحَلَّفُ لَهَا ، وَيُحْبَسُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ .
أَوْ تُسْمَعُ دَعْوَى الذَّاعِرِ الْهَارِبِ وَبِيَدِهِ عِمَامَةٌ لَهَا ذُؤَابَةٌ ، وَعَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ ، وَخَلْفَهُ عَالِمٌ مَكْشُوفُ الرَّأْسِ ، فَيَدَّعِي الذَّاعِرُ أَنَّ الْعِمَامَةَ لَهُ ، فَتُسْمَعُ دَعْوَاهُ ، وَيُحْكَمُ لَهُ بِهَا بِحُكْمِ الْيَدِ .
أَوْ يَدَّعِي رَجُلٌ مَعْرُوفٌ بِالْفُجُورِ وَأَذَى النَّاسِ عَلَى رَجُلٍ مَشْهُورٍ بِالدِّيَانَةِ وَالصَّلَاحِ : أَنَّهُ نَقَبَ بَيْتَهُ وَسَرَقَ مَتَاعَهُ ، فَتُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَيُسْتَحْلَفُ لَهُ ، فَإِنْ نَكَلَ قُضِيَ عَلَيْهِ .
أَوْ يَدَّعِي رَجُلٌ مَعْرُوفٌ بِالشِّحَاذَةِ وَسُؤَالِ النَّاسِ : أَنَّهُ أَقْرَضَ تَاجِرًا مِنْ أَكْبَرِ التُّجَّارِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ ، أَوْ أَنَّهُ غَصَبَهَا مِنْهُ ، أَوْ أَنَّ ثِيَابَ التَّاجِرِ الَّتِي هِيَ عَلَيْهِ مِلْكُ الشَّحَّاذِ شَلَحَهُ إيَّاهَا ، أَوْ غَصَبَهَا مِنْهُ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الدَّعَاوَى الَّتِي شَهِدَ النَّاسُ بِفِطَرِهِمْ وَعُقُولِهِمْ : أَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْبَاطِلِ ، فَهَذِهِ لَا تُسْمَعُ ، وَلَا يَحْلِفُ فِيهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَيُعَزَّرُ الْمُدَّعِي تَعْزِيرَ أَمْثَالِهِ .
وَهَذَا الَّذِي تَقْتَضِيهِ الشَّرِيعَةُ الَّتِي مَبْنَاهَا عَلَى الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=115وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّك صِدْقًا وَعَدْلًا ، لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } فَالشَّرِيعَةُ الْمُنَزَّلَةُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا تُصَدِّقُ كَاذِبًا ، وَلَا تَنْصُرُ ظَالِمًا .