فصل في
nindex.php?page=treesubj&link=28899_18626_28741اشتمال القرآن على أنواع الإعجاز .
وهو أن يقع التركيب بحيث لا يمتنع أن يوجد ما هو أشد تناسبا ولا اعتدالا في إفادة ذلك المعنى .
وقد اختلف في أنه : هل تتفاوت فيه مراتب الفصاحة ؟ واختار
nindex.php?page=showalam&ids=14628القاضي أبو بكر بن الطيب في كتاب ( الإعجاز ) المنع ، وأن كل كلمة موصوفة بالذروة العليا ،
[ ص: 248 ] وإن كان بعض الناس أحسن إحساسا له من بعض ; وهذا كما أن بعضهم يفطن للوزن بخلاف بعض .
واختار
nindex.php?page=showalam&ids=12851أبو نصر بن القشيري في تفسيره التفاوت ، فقال : وقد رد على
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج ، وغيره تضعيفهم قراءة ( والأرحام ) بالجر : هذا من الكلام مردود عند أئمة الدين ; لأن
nindex.php?page=treesubj&link=29581_20756القراءات السبع متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا ثبت فمن رد ذلك ، فكأنما رد على النبوة ، وهذا مقام محذور ، لا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو . ولعلهم أرادوا أنه
[ ص: 249 ] صحيح فصيح ، وإن كان غيره أفصح منه ، قال : فإنا لا ندعي أن كل ما في القرآن على أرفع الدرجات في الفصاحة .
وإلى هذا نحا
الشيخ عز الدين في كتاب المجاز وأورد سؤالا فقال : فإن قلت : فلم لم يأت القرآن جميعه بالأفصح والأملح ؟ وقال : فيه إشكال يسر الله حله .
قال
القاضي صدر الدين موهوب الجزري رحمه الله : وقد وقع لي حل هذا الإشكال بتوفيق الله تعالى ، فأقول : البارئ جلت قدرته له أساليب مختلفة على مجاري تصريف أقداره ، فإنه كان قادرا على إلجاء المشركين إلى الإقرار بنبوة
محمد صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=4إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ( الشعراء : 4 ) ولكنه سبحانه أرسل رسوله على أساليب الأسباب والمسببات ، وجاري العوائد الواقعة من أهل الزمان ؛ ولذلك تكون حروب الأنبياء سجالا بينهم وبين الكفار ، ويبتدئ أمر الأنبياء بأسباب خفيفة ، ولا تزال تنمى وتشتد ، كل ذلك يدل على أن أساليبهم في الإرسال على ما هو المألوف والمعتاد من أحوال غيرهم .
إذا عرف ذلك كان مجيء القرآن العزيز بغير الأفصح والأملح جميعه ; لأنه تحداهم بمعارضته على المعتاد فلو وقع على غير المعتاد ، لكان ذلك نمطا غير النمط الذي أراده الله عز وجل في الإعجاز .
ولما كان الأمر على ما وصفنا جاء القرآن على نهج إنشائهم الخطب ، والأشعار وغيرها ،
[ ص: 250 ] ليحصل لهم التمكن من المعارضة ثم يعجزوا عنها ، فيظهر الفلج بالحجة ; لأنهم لو لم يتمكنوا لكان لهم أن يقولوا : قد أتيت بما لا قدرة لنا عليه ; فكما لا يصح من أعمى معارضة المبصر في النظر لا يحسن من البصير أن يقول : غلبتك أيها الأعمى بنظري ; فإن للأعمى أن يقول : إنما تتم لك الغلبة لو كنت أنظر وكان نظرك أقوى من نظري ; فأما إذا فقد أصل النظر فكيف تصح معنى المعارضة .
فإن قلت : فلو كانت المعجزة شيئا لا يقدر عليه البشر ، كإحياء الموتى وأمثاله ، فكيف كان ذلك أدعى إلى الانقياد ؟ .
قلت : هذا السؤال سبق الجواب عنه في الكلام ، وإن أساليب الأنبياء تقع على نهج أساليب غيرهم .
فإن قلت : فما ذكرته يدل على أن عجز العرب عن معارضته إنما كانت لصرف دعاويهم ، مع أن المعارضة كانت مقدورة لهم .
قلت : قد ذهب بعض العلماء إلى ذلك ، ولكن لا أراه حقا ، ويندفع السؤال المذكور . وإن كان الإعجاز في القرآن بأسلوبه الخاص به ; إلا أن الذين قالوا : بأن المعجز فيه هو الصرفة مذهبهم أن جميع أساليبه جميعا ليس على نهج أساليبهم ; ولكن شاركت أساليبهم في أشياء :
منها : أنه بلغتهم . ومنها : أن آحاد الكلمات قد كانوا يستعملونه في خطهم وأشعارهم ، ولكن تمتاز بأمور أخر ; منها غرابة نظمه الخاص الذي ليس مشابها لأجزاء الشعر وأوزانه وهزجه ورجزه وغير ذلك من ضروبه ; فأما توالي نظمه من أوله إلى آخره ، بأن يأتي بالأفصح والأملح ; فهذا مما وقعت فيه المشاركة لكلامهم ; فبذلك امتاز هذا المذهب عن مذهب من يقول : إنه كان جميعه مقدورا لهم ، وإنما صرفت دواعيهم عن المعارضة . انتهى .
وقد سبق اختيار
القاضي أنه ليس على أساليبهم ألبتة فيبقى السؤال بحاله .
فَصْلٌ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28899_18626_28741اشْتِمَالِ الْقُرْآنِ عَلَى أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ .
وَهُوَ أَنْ يَقَعَ التَّرْكِيبُ بِحَيْثُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُوجَدَ مَا هُوَ أَشَدُّ تَنَاسُبًا وَلَا اعْتِدَالًا فِي إِفَادَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى .
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ : هَلْ تَتَفَاوَتُ فِيهِ مَرَاتِبُ الْفَصَاحَةِ ؟ وَاخْتَارَ
nindex.php?page=showalam&ids=14628الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ فِي كِتَابِ ( الْإِعْجَازِ ) الْمَنْعَ ، وَأَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ مَوْصُوفَةٌ بِالذِّرْوَةِ الْعُلْيَا ،
[ ص: 248 ] وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ أَحْسَنَ إِحْسَاسًا لَهُ مِنْ بَعْضٍ ; وَهَذَا كَمَا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَفْطِنُ لِلْوَزْنِ بِخِلَافِ بَعْضٍ .
وَاخْتَارَ
nindex.php?page=showalam&ids=12851أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ التَّفَاوُتَ ، فَقَالَ : وَقَدْ رُدَّ عَلَى
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزَّجَّاجِ ، وَغَيْرِهِ تَضْعِيفُهُمْ قِرَاءَةَ ( وَالْأَرْحَامِ ) بِالْجَرِّ : هَذَا مِنَ الْكَلَامِ مَرْدُودٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الدِّينِ ; لِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29581_20756الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَ مُتَوَاتِرَةٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِذَا ثَبَتَ فَمَنْ رَدَّ ذَلِكَ ، فَكَأَنَّمَا رَدَّ عَلَى النُّبُوَّةِ ، وَهَذَا مَقَامٌ مَحْذُورٌ ، لَا يُقَلَّدُ فِيهِ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ . وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّهُ
[ ص: 249 ] صَحِيحٌ فَصِيحٌ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَفْصَحَ مِنْهُ ، قَالَ : فَإِنَّا لَا نَدَّعِي أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَرْفَعِ الدَّرَجَاتِ فِي الْفَصَاحَةِ .
وَإِلَى هَذَا نَحَا
الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي كِتَابِ الْمَجَازِ وَأَوْرَدَ سُؤَالًا فَقَالَ : فَإِنْ قُلْتَ : فَلِمَ لَمْ يَأْتِ الْقُرْآنُ جَمِيعُهُ بِالْأَفْصَحِ وَالْأَمْلَحِ ؟ وَقَالَ : فِيهِ إِشْكَالٌ يَسَّرَ اللَّهُ حَلَّهُ .
قَالَ
الْقَاضِي صَدْرُ الدِّينِ مَوْهُوبٌ الْجَزَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقَدْ وَقَعَ لِي حَلُّ هَذَا الْإِشْكَالِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَأَقُولُ : الْبَارِئُ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ لَهُ أَسَالِيبُ مُخْتَلِفَةٌ عَلَى مَجَارِي تَصْرِيفِ أَقْدَارِهِ ، فَإِنَّهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِلْجَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْإِقْرَارِ بِنُبُوَّةِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=4إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ( الشُّعَرَاءِ : 4 ) وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرْسَلَ رَسُولَهُ عَلَى أَسَالِيبِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ ، وَجَارِي الْعَوَائِدِ الْوَاقِعَةِ مِنْ أَهْلِ الزَّمَانِ ؛ وَلِذَلِكَ تَكُونُ حُرُوبُ الْأَنْبِيَاءِ سِجَالًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ ، وَيَبْتَدِئُ أَمْرُ الْأَنْبِيَاءِ بِأَسْبَابٍ خَفِيفَةٍ ، وَلَا تَزَالُ تُنَمَّى وَتَشْتَدُّ ، كُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَسَالِيبَهُمْ فِي الْإِرْسَالِ عَلَى مَا هُوَ الْمَأْلُوفُ وَالْمُعْتَادُ مِنْ أَحْوَالِ غَيْرِهِمْ .
إِذَا عُرِفَ ذَلِكَ كَانَ مَجِيءُ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ بِغَيْرِ الْأَفْصَحِ وَالْأَمْلَحِ جَمِيعِهِ ; لِأَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ بِمُعَارَضَتِهِ عَلَى الْمُعْتَادِ فَلَوْ وَقَعَ عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ ، لَكَانَ ذَلِكَ نَمَطًا غَيْرَ النَّمَطِ الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْإِعْجَازِ .
وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا جَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى نَهْجِ إِنْشَائِهِمُ الْخُطَبَ ، وَالْأَشْعَارَ وَغَيْرَهَا ،
[ ص: 250 ] لِيَحْصُلَ لَهُمُ التَّمَكُّنُ مِنَ الْمُعَارَضَةِ ثُمَّ يَعْجِزُوا عَنْهَا ، فَيَظْهَرَ الْفَلْجُ بِالْحُجَّةِ ; لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا لَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا : قَدْ أَتَيْتَ بِمَا لَا قُدْرَةَ لَنَا عَلَيْهِ ; فَكَمَا لَا يَصِحُّ مِنْ أَعْمًى مُعَارَضَةُ الْمُبْصِرِ فِي النَّظَرِ لَا يَحْسُنُ مِنَ الْبَصِيرِ أَنْ يَقُولَ : غَلَبْتُكَ أَيُّهَا الْأَعْمَى بِنَظَرِي ; فَإِنَّ لِلْأَعْمَى أَنْ يَقُولَ : إِنَّمَا تَتِمُّ لَكَ الْغَلَبَةُ لَوْ كُنْتُ أَنْظُرُ وَكَانَ نَظَرُكَ أَقْوَى مِنْ نَظَرِي ; فَأَمَّا إِذَا فُقِدَ أَصْلُ النَّظَرِ فَكَيْفَ تَصِحُّ مَعْنَى الْمُعَارَضَةِ .
فَإِنْ قُلْتَ : فَلَوْ كَانَتِ الْمُعْجِزَةُ شَيْئًا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ ، كَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَأَمْثَالِهِ ، فَكَيْفَ كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى الِانْقِيَادِ ؟ .
قُلْتُ : هَذَا السُّؤَالُ سَبَقَ الْجَوَابُ عَنْهُ فِي الْكَلَامِ ، وَإِنَّ أَسَالِيبَ الْأَنْبِيَاءِ تَقَعُ عَلَى نَهْجِ أَسَالِيبِ غَيْرِهِمْ .
فَإِنْ قُلْتَ : فَمَا ذَكَرْتَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَجْزَ الْعَرَبِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ إِنَّمَا كَانَتْ لِصَرْفِ دَعَاوِيهِمْ ، مَعَ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ كَانَتْ مَقْدُورَةً لَهُمْ .
قُلْتُ : قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى ذَلِكَ ، وَلَكِنْ لَا أَرَاهُ حَقًّا ، وَيَنْدَفِعُ السُّؤَالُ الْمَذْكُورُ . وَإِنْ كَانَ الْإِعْجَازُ فِي الْقُرْآنِ بِأُسْلُوبِهِ الْخَاصِّ بِهِ ; إِلَّا أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا : بِأَنَّ الْمُعْجِزَ فِيهِ هُوَ الصَّرْفَةُ مَذْهَبُهُمْ أَنَّ جَمِيعَ أَسَالِيبِهِ جَمِيعًا لَيْسَ عَلَى نَهْجِ أَسَالِيبِهِمْ ; وَلَكِنْ شَارَكَتْ أَسَالِيبَهُمْ فِي أَشْيَاءَ :
مِنْهَا : أَنَّهُ بِلُغَتِهِمْ . وَمِنْهَا : أَنَّ آحَادَ الْكَلِمَاتِ قَدْ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَهُ فِي خَطِّهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ ، وَلَكِنْ تَمْتَازُ بِأُمُورٍ أُخَرَ ; مِنْهَا غَرَابَةُ نَظْمِهِ الْخَاصِّ الَّذِي لَيْسَ مُشَابِهًا لِأَجْزَاءِ الشِّعْرِ وَأَوْزَانِهِ وَهَزَجِهِ وَرَجَزِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِهِ ; فَأَمَّا تَوَالِي نَظْمِهِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ ، بِأَنْ يَأْتِيَ بِالْأَفْصَحِ وَالْأَمْلَحِ ; فَهَذَا مِمَّا وَقَعَتْ فِيهِ الْمُشَارَكَةُ لِكَلَامِهِمْ ; فَبِذَلِكَ امْتَازَ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْ مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ : إِنَّهُ كَانَ جَمِيعُهُ مَقْدُورًا لَهُمْ ، وَإِنَّمَا صُرِفَتْ دَوَاعِيهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ . انْتَهَى .
وَقَدْ سَبَقَ اخْتِيَارُ
الْقَاضِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَسَالِيبِهِمْ أَلْبَتَّةَ فَيَبْقَى السُّؤَالُ بِحَالِهِ .