[ ص: 407 ] المسألة التاسعة
nindex.php?page=treesubj&link=20476الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة ، بمعنى أنه لا يختص بالخطاب بحكم من أحكامها الطلبية بعض دون بعض ، ولا يحاشى من الدخول تحت أحكامها مكلف البتة ، والدليل على ذلك - مع أنه واضح - أمور :
أحدها : النصوص المتضافرة ; كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=28وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا [ سبأ : 28 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=158قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ الأعراف : 158 ] .
وقوله عليه الصلاة والسلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337580بعثت إلى الأحمر والأسود .
[ ص: 408 ] وأشباه هذه النصوص مما يدل على أن البعثة عامة لا خاصة ، ولو كان بعض الناس مختصا بما لم يخص به غيره ; لم يكن مرسلا للناس جميعا ; إذ يصدق على من لم يكلف بذلك الحكم الخاص أنه لم يرسل إليه به ; فلا يكون مرسلا بذلك الحكم الخاص إلى الناس جميعا ، وذلك باطل ، فما أدى إليه مثله بخلاف الصبيان والمجانين ونحوهم ممن ليس بمكلف ، فإنه لم يرسل إليه بإطلاق ، ولا هو داخل تحت الناس المذكورين في القرآن ، فلا اعتراض به ، وما تعلق بأفعالهم من الأحكام المنسوبة إلى خطاب الوضع ; فظاهر الأمر فيه .
والثاني : أن الأحكام إذا كانت موضوعة لمصالح العباد ; فالعباد بالنسبة إلى ما تقتضيه من المصالح مرآة ، فلو وضعت على الخصوص ; لم تكن موضوعة لمصالح العباد بإطلاق ، لكنها كذلك حسبما تقدم في موضعه ; فثبت أن أحكامها على العموم لا على الخصوص ، وإنما يستثنى من هذا ما كان اختصاصا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=50وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي ، إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=50خالصة لك من دون المؤمنين [ الأحزاب : 50 ] .
[ ص: 409 ] وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=51ترجي من تشاء منهن [ الأحزاب : 51 ] الآية .
وما أشبه ذلك مما ثبت فيه الاختصاص به بالدليل ، ويرجع إلى هذا ما خص هو به بعض أصحابه كشهادة
خزيمة ; فإنه راجع إليه عليه الصلاة والسلام أو غير راجع إليه ; كاختصاص
nindex.php?page=showalam&ids=177أبي بردة بن نيار بالتضحية بالعناق
[ ص: 410 ] الجذعة ، وخصه بذلك بقوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337581ولن تجزئ عن أحد بعدك ; فهذا لا نظر فيه ، إذ هو راجع إلى جهة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولأجله وقع النص على الاختصاص في مواضعه إعلاما بأن الأحكام الشرعية خارجة عن قانون الاختصاص .
والثالث : إجماع العلماء المتقدمين على ذلك من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، ولذلك صيروا أفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة للجميع في أمثالها ، وحاولوا فيما وقع من الأحكام على قضايا معينة وليس لها صيغ عامة أن تجري على العموم ; إما بالقياس ، أو بالرد إلى الصيغة أن تجري على العموم المعنوي ، أو غير ذلك من المحاولات ، بحيث لا يكون الحكم على الخصوص في النازلة الأولى مختصا به ، وقد قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=37فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج الآية [ الأحزاب : 37 ] ;
[ ص: 411 ] فقرر الحكم في مخصوص ليكون عاما في الناس ، وتقرر صحة الإجماع لا يحتاج إلى مزيد ، لوضوحه عند من زاول أحكام الشريعة .
والرابع : أنه لو جاز خطاب البعض ببعض الأحكام حتى يخص بالخروج عنه بعض الناس ; لجاز مثل ذلك في قواعد الإسلام أن لا يخاطب بها بعض من كملت فيه شروط التكليف بها ، وكذلك في الإيمان الذي هو رأس الأمر ، وهذا باطل ، فما لزم عنه مثله ، ولا أعني بذلك ما كان نحو الولايات وأشباهها ; من القضاء ، والإمامة ، والشهادة ، والفتيا في النوازل ، والعرافة ، والنقابة ، والكتابة ، والتعليم للعلوم وغيرها ; فإن هذه الأشياء راجعة إلى النظر في شرط التكليف بها ، وجامع الشروط في التكليف القدرة على المكلف به ; فالقادر على القيام بهذه الوظائف مكلف بها على الإطلاق والعموم ، ومن لا يقدر على ذلك سقط التكليف عنه بإطلاق ، كالأطفال والمجانين بالنسبة إلى الطهارة والصلاة ونحوها ; فالتكليف عام لا خاص ،
[ ص: 412 ] [ وبسقوطه أيضا عام لا خاص ] من جهة القدرة أو عدمها لا من جهة أخرى ، بناء على منع التكليف بما لا يطاق ، وكذلك الأمر في كل ما كان موهما للخطاب الخاص ; كمراتب الإيغال في الأعمال ، ومراتب الاحتياط على الدين ، وغير ذلك .
[ ص: 407 ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ
nindex.php?page=treesubj&link=20476الشَّرِيعَةُ بِحَسَبِ الْمُكَلَّفِينَ كُلِّيَّةٌ عَامَّةٌ ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُخْتَصُّ بِالْخِطَابِ بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِهَا الطَّلَبِيَّةِ بَعْضٌ دُونَ بَعْضٍ ، وَلَا يُحَاشَى مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ أَحْكَامِهَا مُكَلَّفٌ الْبَتَّةَ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ - مَعَ أَنَّهُ وَاضِحٌ - أُمُورٌ :
أَحَدُهَا : النُّصُوصُ الْمُتَضَافِرَةُ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=28وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [ سَبَأٍ : 28 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=158قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [ الْأَعْرَافِ : 158 ] .
وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337580بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ .
[ ص: 408 ] وَأَشْبَاهِ هَذِهِ النُّصُوصِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَعْثَةَ عَامَّةٌ لَا خَاصَّةٌ ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ مُخْتَصًّا بِمَا لَمْ يُخَصَّ بِهِ غَيْرُهُ ; لَمْ يَكُنْ مُرْسَلًا لِلنَّاسِ جَمِيعًا ; إِذْ يَصْدُقُ عَلَى مَنْ لَمْ يُكَلَّفْ بِذَلِكَ الْحُكْمِ الْخَاصِّ أَنَّهُ لَمْ يُرْسَلْ إِلَيْهِ بِهِ ; فَلَا يَكُونُ مُرْسَلًا بِذَلِكَ الْحُكْمِ الْخَاصِّ إِلَى النَّاسِ جَمِيعًا ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ ، فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ بِخِلَافِ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُرْسَلْ إِلَيْهِ بِإِطْلَاقٍ ، وَلَا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ النَّاسِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْقُرْآنِ ، فَلَا اعْتِرَاضَ بِهِ ، وَمَا تَعَلَّقَ بِأَفْعَالِهِمْ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى خِطَابِ الْوَضْعِ ; فَظَاهِرُ الْأَمْرِ فِيهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْأَحْكَامَ إِذَا كَانَتْ مَوْضُوعَةً لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ ; فَالْعِبَادُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا تَقْتَضِيهِ مِنَ الْمَصَالِحِ مِرْآةٌ ، فَلَوْ وُضِعَتْ عَلَى الْخُصُوصِ ; لَمْ تَكُنْ مَوْضُوعَةً لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ بِإِطْلَاقٍ ، لَكِنَّهَا كَذَلِكَ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِهِ ; فَثَبَتَ أَنَّ أَحْكَامَهَا عَلَى الْعُمُومِ لَا عَلَى الْخُصُوصِ ، وَإِنَّمَا يُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا مَا كَانَ اخْتِصَاصًا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=50وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ، إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=50خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [ الْأَحْزَابِ : 50 ] .
[ ص: 409 ] وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=51تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ [ الْأَحْزَابِ : 51 ] الْآيَةَ .
وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ فِيهِ الِاخْتِصَاصُ بِهِ بِالدَّلِيلِ ، وَيَرْجِعُ إِلَى هَذَا مَا خَصَّ هُوَ بِهِ بَعْضَ أَصْحَابِهِ كَشَهَادَةِ
خُزَيْمَةَ ; فَإِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْ غَيْرُ رَاجِعٍ إِلَيْهِ ; كَاخْتِصَاصِ
nindex.php?page=showalam&ids=177أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ بِالتَّضْحِيَةِ بِالْعَنَاقِ
[ ص: 410 ] الْجَذَعَةِ ، وَخَصَّهُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337581وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ ; فَهَذَا لَا نَظَرَ فِيهِ ، إِذْ هُوَ رَاجِعٌ إِلَى جِهَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَلِأَجْلِهِ وَقَعَ النَّصُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ فِي مَوَاضِعِهِ إِعْلَامًا بِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ خَارِجَةٌ عَنْ قَانُونِ الِاخْتِصَاصِ .
وَالثَّالِثُ : إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ، وَلِذَلِكَ صَيَّرُوا أَفْعَالَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُجَّةً لِلْجَمِيعِ فِي أَمْثَالِهَا ، وَحَاوَلُوا فِيمَا وَقَعَ مِنَ الْأَحْكَامِ عَلَى قَضَايَا مُعَيَّنَةٍ وَلَيْسَ لَهَا صِيَغٌ عَامَّةٌ أَنْ تَجْرِيَ عَلَى الْعُمُومِ ; إِمَّا بِالْقِيَاسِ ، أَوْ بِالرَّدِّ إِلَى الصِّيغَةِ أَنْ تَجْرِيَ عَلَى الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَاوَلَاتِ ، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ الْحُكْمُ عَلَى الْخُصُوصِ فِي النَّازِلَةِ الْأَوْلَى مُخْتَصًّا بِهِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=37فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ الْآيَةَ [ الْأَحْزَابِ : 37 ] ;
[ ص: 411 ] فَقَرَّرَ الْحُكْمَ فِي مَخْصُوصٍ لِيَكُونَ عَامًا فِي النَّاسِ ، وَتَقَرُّرُ صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَزِيدٍ ، لِوُضُوحِهِ عِنْدَ مَنْ زَاوَلَ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ .
وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ لَوْ جَازَ خِطَابُ الْبَعْضِ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ حَتَّى يَخُصَّ بِالْخُرُوجِ عَنْهُ بَعْضَ النَّاسِ ; لَجَازَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ أَنْ لَا يُخَاطَبُ بِهَا بَعْضُ مَنْ كَمُلَتْ فِيهِ شُرُوطُ التَّكْلِيفِ بِهَا ، وَكَذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ الْأَمْرِ ، وَهَذَا بَاطِلٌ ، فَمَا لَزِمَ عَنْهُ مِثْلُهُ ، وَلَا أَعَنِي بِذَلِكَ مَا كَانَ نَحْوَ الْوِلَايَاتِ وَأَشْبَاهِهَا ; مِنَ الْقَضَاءِ ، وَالْإِمَامَةِ ، وَالشَّهَادَةِ ، وَالْفُتْيَا فِي النَّوَازِلِ ، وَالْعِرَافَةِ ، وَالنِّقَابَةِ ، وَالْكِتَابَةِ ، وَالتَّعْلِيمِ لِلْعُلُومِ وَغَيْرِهَا ; فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ رَاجِعَةٌ إِلَى النَّظَرِ فِي شَرْطِ التَّكْلِيفِ بِهَا ، وَجَامِعُ الشُّرُوطِ فِي التَّكْلِيفِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِهِ ; فَالْقَادِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِهَذِهِ الْوَظَائِفِ مُكَلَّفٌ بِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ ، وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ سَقَطَ التَّكْلِيفُ عَنْهُ بِإِطْلَاقٍ ، كَالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا ; فَالتَّكْلِيفُ عَامٌ لَا خَاصٌّ ،
[ ص: 412 ] [ وَبِسُقُوطِهِ أَيْضًا عَامٌ لَا خَاصٌّ ] مِنْ جِهَةِ الْقُدْرَةِ أَوْ عَدَمِهَا لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ، بِنَاءً عَلَى مَنْعِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي كُلِّ مَا كَانَ مُوهِمًا لِلْخِطَابِ الْخَاصِّ ; كَمَرَاتِبِ الْإِيغَالِ فِي الْأَعْمَالِ ، وَمَرَاتِبِ الِاحْتِيَاطِ عَلَى الدِّينِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ .